داعية فلسطيني ومفكّر | الكويت
إن دعوى التخصُّص التي جاءت في نصين من نصوص المؤتمر، الأول في شأن المجال السياسي: (يتخصَّص الحزب في إصلاح الحياة السياسية والحقل العام والإدارة والحكم والقانون، ويسهم في إعادة بناء المشهد السياسي حول قيمة الوسطية، ويتولى المجتمع المدني بكامل الاستقلالية القيام على بقية مجالات الإصلاح).
والثاني في شأن المجال الديني: (إن تحرير القدرات المواطنية في الفضاء الديني ومجالات الإصلاح الأخرى، سيحرر المشتغلين فيها من الانتظارية المعطلة ومن الارتهان لتقلبات السياسة). لا تكفي مبرراً لفصل المجال السياسي عن المجال الدعوي.
ومن قال إن فصلهما سيجعل المجال الديني في مأمن من التقلب السياسي، وهذا يحدث فقط عندما يتوقف الدعوي عند حدود المسجد ولا يتعداه، فيصبح مثل دور الراهب في الكنيسة المعاصرة، ولا شك أن الدعوي في الإسلام لا يتوقف عند حدود المسجد، بل يتعداه إلى السوق والإذاعة والتلفاز والأخلاق والمدرسة إلخ...، فعندئذ لا أظن أنه سيصبح في مأمن من السياسة. إن الفصل بين "الدعوي"، و"السياسي" هو فصل غير معلن بين "الدين" و"الدولة"، ويصبح هذا المعنى متحقِّقاً عندما نعلم أن راشد الغنوشي لا يرى تناقضاً بين الإسلام والعلمانية التي تنادي بفصل الدين عن الدولة، فقد كتب الغنوشي مقالاً بعنوان "الإسلام والعلمانية" بتاريخ 13-11-2008م، وقد رددت عليه بأن الإسلام يتعارض حتى مع العلمانية الجزئية التي ميزها الغنوشي عن العلمانية الشاملة، وهو _ أي الغنوشي _ قد تبع الدكتور عبد الوهاب المسيري في هذا التمييز والتقسيم الخاطئ.
فالغنوشي لا يستنكر الفصل الذي تقوم عليه العلمانية وهو: فصل الدين عن الدولة، بل يعتبر الإسلام يقوم على هذا، وهو يلتقي مع العلمانية في هذا الفصل.
ثم صرَّح البيان الختامي للمؤتمر العاشر لـ "حزب حركة النهضة" بأنه سيعتمد الديمقراطية أساساً للحكم فجاء فيه القرار التالي: (يضمن الحياة الكريمة لكل التونسيين والتونسيات، باعتماد الديمقراطية أساساً للدولة ومنهاجاً في إدارة الشأن العام)، كما وردت عبارات أخرى تؤكد المعنى السابق نفسه في أكثر من موضع من البيان الختامي، ومنها: (وتعتبر النهضة أن عملها مندرج ضمن اجتهاد أصيل، لتكوين تيار واسع من "المسلمين الديمقراطيين" الذين يرفضون التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة).
وعند العودة إلى "مصطلح الديمقراطية" نجد أنه يقوم على محورين:
1) مبادئ الديمقراطية:
.نسبية الحقيقة: أما نسبية الحقيقة فديننا يقوم على أربعة أنواع من النصوص، أحدها: النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة: وهو يتعارض مع نسبية الحقيقة، ومعظم أحكام العقيدة والعبادة والأسرة والحدود والحلال والحرام مبنيَّة على هذا النوع من النصوص، ولذلك فإن نسبية الحقيقة تتعارض مع أهم عوامل بناء الفرد المسلم والأمة المسلمة.
.مادية الكون: أما مادية الكون فهو الإيمان بالكون المحسوس المجرب المرئي المسموع إلخ...، أي الإيمان بعالم الشهادة، ولكن المسلم يؤمن بعالم الشهادة لكنه يؤمن إلى جانب ذلك بعالم الغيب، وهذا العالم يشمل وجود الله والجنة والنار والملائكة والشياطين والروح إلخ...، وهذا ما تتنكَّر له المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية.
.الحرية الفردية المطلقة: أما الحرية الفردية المطلقة فقد تصل إلى حد حرية قتل النفس، وإلى حد حرية التصرف بالأموال بحيث يورثها إلى كلب أو هرٍّ، وإلى حد حرية التلاعب بالجنس، واعتبار الذكر نفسه أنثى في وقت ثم العودة إلى اعتبارها ذكراً، والعكس بالنسبة للأنثى. ليس من شك أن مثل هذه الحرية تصطدم مع الحرية الفردية التي أقرَّها الإسلام، والتي تراعي الفطرة وحاجات الفرد الجماعية والمجتمع والأمة.
.اعتماد المصلحة أو المنفعة أو اللذة في أي عمل: أما بالنسبة لاعتماد المصلحة أو المنفعة أو اللَّذة في أي عمل من الأعمال فهذا أمر مقبول، لكنَّ المشكلة في أن الحضارة الغربية تعتمد المنفعة والمصلحة واللَّذة وتقدمها على الأخلاق في حال التعارض.
2) آليات الديمقراطية: فإذا تناولنا انتخاب الحاكم، فإننا نجد أبا بكر الصديق ] أخذ شرعيته من اختيار الأنصار والمهاجرين له في سقيفة بني ساعدة، ومبايعتهم له بعد ذلك. وإذا تناولنا المحاسبة فقد حاسب كل من الرسول[ وعمر بن الخطاب ] بعض ولاتهم، واستردوا منهم أموالاً لصالح بيت مال المسلمين.
وإذا تناولنا حرية الرأي فإننا نجد أن امرأة حاججت عمر] في شأن المهور فقال: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".
وإذا تناولنا المشاورة فقد شكَّل عمر بن الخطاب ] مجلساً له من كبار الصحابة، كان يشاورهم في شؤون الخلافة كلِّها، وسجَّل التاريخ أنه بقي الصحابة ردحاً من الزمن يتحاورون في شأن سواد العراق، هل يوزعونه على المتحاربين أم يبقونه مع أصحابه ويأخذون الخراج، وفي النهاية أخذ الصحابة بالرأي الذي يقول بإبقائه وأخذ الخراج لأن هذا الحكم يحقِّق عدة مصالح للمسلمين المعاصرين وللأجيال القادمة.
بعد استعراضنا لبعض الآليات التي تقوم عليها الديمقراطية وجدنا أنها مقبولة، ولها أصل في تاريخنا، وأقرَّتها بعض كتب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية.
لم يبين الغنوشي موقفه من مِحوَري الديمقراطية: المبادئ والآليات، وإن كان الذي نتوقع منه أن يرفض المبادئ لأنها تتعارض مع الإسلام في كثير من أحكامها، وأن يقبل الآليات، لذلك فمن واجب الغنوشي أن يقوم بالتوضيح السابق، وأن يبين الجوانب المقبولة من الديمقراطية والجوانب المرفوضة، وأن لا يبقي الموضوع دون جلاء وتوضيح وإذا لم يفعل ذلك، فإنه يكون قد وقع في محظور شرعي.
وفي الختام: ليس من شك بأنها تغييرات ضخمة في مجال الحركة الإسلامية، وتمثِّل منعطفاً في مسيرتها، ولكنها انعطاف في الاتجاه غير السليم، وفي اتجاه الرضوخ لقيم الحضارة الغربية.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
داعية فلسطيني ومفكّر | الكويت
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن