متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
ما سبب سخط الإنسان على نفسه؟!
نِعَمُ الله على الإنسان لا تحصى ولا تعدُّ، وسعت حياتَه كلَّها، ويتمتَّع بها في كلِّ لحظة، حَسَّن الله خَلقَه؛ وهذه نعمة ظاهرة.. وهداه سبحانه إلى أساس سلامته في الدُّنيا والآخرة؛ بأن أرشده إلى كيفيَّة الحركة المتوافقة في كلِّ الأوقات والأوضاع مع الهدف الَّذي أراده له من حياته؛ وهذه نعمة باطنة.. وما الإيمان إلَّا عمقُ الإحساس بما لله علينا من فضل واتِّباعٌ لهداه سبحانه وتعالى.
ونعمة الهداية خاصَّة بالمؤمنين (يمنُّون عليك أن أسلموا قل لا تمنُّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين).
وتنبثق عن نعمة الهداية نعمة الطَّاعة الَّتي تملأ الحياة رضاً وطمأنينة.
ومن النِّعم ما هو عامٌّ لجميع الخلق، البارِّ منهم والفاجر، الصَّالح والطَّالح كنعمة الإنسانيَّة (ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطَّيِّبات وفضَّلناهم على كثير ممَّن خلقنا تفضيلاً). ومنها أيضاً نعمة تسخيره سبحانه لما في السَّماوات والأرض لخدمة الإنسان (الَّذي جعل لكم الأرض فراشاً والسَّماء بناءً وأنزل من السَّماء ماء فأخرج به من الثَّمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون). ومنها أيضاً نعمة العقل الَّتي تمكِّن من الإدراك والعلم والبيان.
وإذا ما تمكَّن الإنسان من العلوم دون أن تتوافق حركته مع ما ارتضاه ربُّه له ودون الإحساس بالنِّعم وشكر المنعم؛ فستؤول حياته إلى اضطراب وتصرُّفاته إلى ارتباك، فيغيب الأمن.. وما سبب سخط الإنسان على نفسه إلَّا من قلَّة إحساسه بما يتمتَّع، وحرمانه من نعمة الرِّضا.. لن يجد نفسه مَن لا يعرف غاية وجوده الحقيقيَّة..
في الغرب وفي عالمنا المعاصر عموماً نلحظ مثل هذا الاضطراب، فقد حرم الإنسان نفسه من نعمة الرِّضا، وضاقت الأرض بما رَحُبت على الكثيرين إلى درجة الإقدام على الانتحار. افتقد الإنسان المعاصر نعمة الحمد _ الَّتي أوتيها المؤمن _ فاختلَّ توازن حركته.. تقدُّم علميٌّ مشهود، وإبداعٌ في ميادين كثيرة، واختراعات يمكن أن ترتقي بالحياة البشريَّة.. إلَّا أنَّ غياب الوعي بالنِّعم وفقدان شكر المنعم يؤدِّي إلى الإخفاق في حسن استثمارها، فيغيب الشُّعور بالمتعة والسَّكينة.
نسيَ الإنسان اليوم خالقه فغرِق في السُّقوط الأخلاقيِّ، وعلَت "الأنا" والمصلحة الخاصَّة، وداست على كلِّ القيم، فحلَّت القسوة محلَّ الرَّحمة، غاب العدل فهَيمن الظُّلم.. وتفنَّن الإنسان في الاعتداء على أخيه الإنسان، وشنَّ الحروب الشَّرسة.. الجار يعتدي على جاره.. الفرد في الأسرة الواحدة يقتل أفراد أسرته.. لم ينفع الإنسان لا التَّقدُّم العلميُّ ولا الإبداع في القوانين.. واستشرى القتل و الظُّلم في كلِّ بقاع العالم..
اختار الله سبحانه وتعالى أن يستفتح القرآن بكلمة الحمد.. أوَّل سورة الفاتحة ليذكِّر المؤمن بقيمة الحمد، هذه السُّورة الَّتي يردِّدها في يومه سبع عشرة مرَّة وأكثر، فيشكر النِّعمة، ويلفظ بعيداً عنه السَّخط..
والشُّكر من أخلاق الرُّبوبيَّة (والله شكور حليم)، وأمر الله بالشُّكر ونهى عن ضدِّه، وهو سبحانه الأعلم بمن خلق وبما يجلب للإنسان توازنه وسعادته، فجعل من الشُّكر جوهر العبادة، ويكون على ما يُحَبُّ وما يُكْرَه، ويتمُّ بالقلب والجوارح..
قال رجل لأبي حزم: ما شكر العينين يا أبا حزم؟ قال: إن رأيت خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شرّاً سترته. قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شرّاً دفنته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لك، و لا تمنع حقّاً لله هو فيهما.
تغرق المجتمعات اليوم في الإرهاب والقسوة بأشكال مختلفة ومتنوِّعة، والمخرج منه قريب.. عجباً للإنسان وللدُّول ولوسائل الإعلام، يتحدَّث الجميع عن الإرهاب ومقاومته، ولكن يديرون ظهورهم عن المنقذ الحقيقيِّ من كلِّ أنواع الظُّلم.. يكفي كلَّ فرد اليوم أن يعمل بحديث ابن حزم؛ فسيغيب حتماً الظُّلم والإرهاب ويحلُّ محلَّه العدل، ويغيب الاضطراب ويسود الأمن..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة