كاتبة سوريّة وإعلامية، في مصر، مشرفة على موقع (إنسان جديد)
همسة للكبار
بين رَحِمِ الأمِّ ورَحِمِ الأرض رحلةٌ نمرُّ بها....
في محطاتها نتقلب، أطفالاً مَرِحين، يافعين متحمِّسين، شبَّاناً على الحياة مقبلين، ثم كهولاً مسنِّين...
نعم، سنصبح مثل أشخاص يعيشون معنا اليوم، نراهم ونتعامل معهم، ولكننا كثيراً ما نغفلهم حقهم، إن نظرنا إلى عيونهم بإمعان فلا بد أن نرى أنفسنا في قابل أيامنا، فبعد سنوات سنكون مكانهم، بضعفٍ نرنو حولنا نترقَّب ذا قوةٍ يجبر ضعفنا، وذا همَّةٍ يضع عنا حِملنا، وذا لهفةٍ يساندنا ويمدُّ يد العون لنا.
بعد سنوات ستعلن أول شعرة بيضاء تظهر في رؤوسنا أن ألقاباً جديدة ستصبح من حقنا، "خالة، عمو"، وسننظر لمن هم أصغر منا نظرة عطف ونترقب منهم نظرة الاحترام.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخاً لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ» (رواه الترمذي)
نعم.. هو واحدٌ من قوانين الحياة: أعطِ اليوم يُعطِك الله غداً... والله لا يضيع عمل عامل منا، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره..
وما من يوم يمرُّ إلا كان لنا فيه درس وذكرى، لأجل ذلك يفيض كبار السن بالحكمة والخبرة.
إذا استنصحتَهم عشت مع حياتك خلاصةَ حياتهم، وإذا استشرتَهم أضفتَ لخبرتك خلاصة تجاربهم، بعيونهم ترى الحياة أوضح، وبإشارات مرورٍ ينصبونها لك على الطريق تصل إلى غايتك أسرع... بهم نصبح أكبر، ومعهم صعاب الحياة تبدو أسهل.
وكبير السن هو في الحياة لنا أبٌ أو أمٌّ أوجدٌّ أو جدَّة، هو في الحياة لنا قريب أو جارٌ أو من أصحاب الوالدَين، وبذلك يجمع المسنُّ علينا فوق حقِّه حقّاً، فإنْ لم تكن تربطنا به صلة؛ فله علينا حقُّ المسلم على المسلم، احترامه علينا واجب، وإكرامه حق بل أكثر من ذلك...
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ...». (رواه أبو داود)، فعجباً لمن يرى مسنّاً واقفاً ويظل هو جالس.. ولمن يرى مسنّاً متعباً فيدير وجهه ولا يكترث..
عجباً لمن يخذل المسنَّ ويمضي دون أن يصغي لدقات قلبه؛ وهي تخبره أنه في يوم قادم سيصبح مسنّاً، وسينزف قلبه ألماً عندما ينتظر مَن يمد نحوه يده، فلا يجد إلا النكران والتجاهل.
عجباً لمن يخذل مسنّاً ويمضي لا يبالي، وقد جاء شيخ ذات يوم يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم أن يُوسِّعوا له، فَرَقََّ له رسول الله ورَحِمَه، وقال: «لَيْسَ مِنََّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» (رواه الترمذي).
ومن وجوه رحمة الكبار في السنِّ ألا نعاملهم بطريقة يستشعرون فيها معنى ضعفهم أو كبر سنِّهم، ولا سيما إذا عرفنا أن ما يشيخ في المسنين هو أجسادهم فقط، وليس أرواحهم، فلا يوجد روح مسنَّة أو هرمة، الروح طالما هي موجودة في جسم الإنسان تبقى متقدة بكل مقوماتها التي كانت عليها منذ أول لحظة سكنت الجسم، لا تكبر ولا تشيخ، بل تبقى بكل مداخلها وتعقيداتها ومطالبها، تبقى شابَّة فتيَّة مثلما كان صاحبها بسنِّ العشرين....
وكذلك المشاعر لا تشيخ ولا تهرم، لا تُسكت التجاعيد حِدَّتها، ولا يُقعدها السُّكَّر، ولا يلجمها الضغط...
المشاعر تصقلها الحياة فتتأجج وتلتهب، وكلما مرَّ على الإنسان يوم في هذه الحياة ذاق من أنواع المشاعر أكثر وصار بحاجة لها أكثر...
باختصار الكبار تتلخص أغلب معاناتهم ومشاكلهم بحالة التكلُّف المجبَرين عليها، ليتمكنوا من الظهور أمام الناس بمقومات نفسية تناسب أشكال أجسامهم ذات الأمراض والتجاعيد... وصراعهم المستمر مع رغبتهم بأن يصرخوا بأعلى أصواتهم ليقولوا لكل من حولهم: إنَّ هذه الأجساد المسنَّة ما زالت تضم بين جنباتها طفلاً، شابّاً يحبُّ اللعب، يحبُّ الضحك، يحبُّ الركض والمزاح والتهور والاندفاع والتجربة... يضنيه تمثيل دور الحكيم والعم والخال... يضنيه دور المسنِّ الوقور... الذي عليه أن يجلس في صدر المجلس، ويبتسم بهدوء، ويأخذ بتقديم الدروس والعبر لمن حوله على اعتباره (بركتهم)!
معاناة يمكن أن نخفف من حِدّتها باستيعاب حاجات المسنين وأحوالهم، ومنحهم مساحة من التعبير عنها دون أن نستعظمها أو نُشعرهم بالحرج من ذلك، مستخدمين أمثالاً توارثناها مثل (بعد الكَبْرة جُبَة حمرة، ولما شاب راح الكُتَّاب) وغيرهما... وخصوصاً إذا علمنا كم من المبدعين والمشاهير بدؤوا مشوار إنجازهم وإبداعهم في سن الخمسين والستين...
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن