داعية، مسؤول فرع جمعية الاتحاد الإسلامي في البقاع وعضو هيئة علماء المسلمين في لبنان
بطل ملاكمة داغستان في أزهر لبنان
الشهرة، والقوة، والشهادات... زينة الحياة التي يتطلع إليها الشباب، أما صاحب قصتنا فقد ترك ذلك باحثاً عن قيمة أخرى.
في عام ١٩٩٤م قدم إلى أزهر البقاع شخص من مجدل عنجر مصطحباً شاباً أشقر، التقى به على الحدود اللبنانية السورية المصطنعة، وجده ينادي: "مفتي... أزهر" غير قادر على أي شرح أو حوار باللغة العربية ولا بالإنكليزية.
قضينا معاً تلك الليلة بالإشارات والابتسامات منتظرين قدوم مدير الأزهر المفتي الشيخ خليل الميس صبيحة اليوم التالي.
بعدها فهمنا قصته؛ إن الشاب هو أصل الدين أجيتوف، عمه مفتي داغستان الذي التقى المفتي الميس في أحد المؤتمرات العلمية ووعده بإرسال ابن أخيه "بطل ملاكمة داغستان في الوزن الثقيل!" ليتعلم الشريعة في لبنان.
رافقه المفتي إلى أزهر لبنان في بيروت ليحيله إلى من يعلمه اللغة العربية أولاً.
بعد عدة أشهر انعقد مؤتمر الزكاة الخامس في بيروت فآثرت أن أتسلل إلى جلساته لأتعرف إلى العلماء الباحثين، ولما جن الليل أويت إلى أزهر بيروت للمبيت فالتقيت ببطلنا على سريره، ممسكاً كتاب الفقه "الاختيار لتعليل المختار" مفتوحاً على "كتاب الطهارة" وإلى جانبه مجلدان ضخمان يرجع إليهما في أكثر الكلمات! وإذا بأحدهما المعجم (العربي - الروسي) والثاني (الروسي - الداغستاني)! فهو لا يتقن العربية كما لا يتقن الروسية، وليس هناك معجم (عربي - داغستاني)، فيضطر أن يتوسل بينهما بالمعجم (العربي - الروسي). هكذا بذل بطلنا الجهود المذهلة لتعلم اللغة والعلم!!!
ورغم أن الأسرّة بعدد الطلاب أبى أصل الدين إلا أن أكون ضيفه؛ فهو مضطر ليسهر ليلته في ملعب الأزهر يردد الآيات بصوت مرتفع ليتوجه بعد صلاة الفجر إلى بيت الشيخ أمين الكردي للتسميع وتلقي درس في العربية.
مرت السنة الدراسية فتخرجت من أزهر البقاع لأتحول إلى كلية الشريعة في بيروت فأكون جار أجيتوف الذي كان الأساتذة يعرفون جده وتقشفه في الحاجات لتوفير كل قرش لشراء الكتب.
ومرت السنين حتى صيف ١٩٩٨م حين أنهيت السنة الجامعية الثالثة، وتسلم هو شهادة الثانوية الشرعية من الأزهر وعليها صورته بالعمامة...
كان كلانا مهتماً بقضاء إجازة الصيف في دمشق لطلب العلم في الحلقات والمساجد، وتوافقنا على أن يسبقني لاستئجار بيت وألحق به، وكذا كان...
التقينا في جبل قاسيون، ثم ترافقنا إلى قصرنا المنيف بالباص؛ إلى أفران ابن النفيس الأوتوماتيكية على طريق مساكن برزة، ثم اقتحمنا البساتين والمزارع حتى وصلنا إليه.
قصرنا كان عبارة عن مدخل هو المطبخ، وممر فيه سرير يضيق به، وغرفة واحدة مساحتها ٣م٢، وحمام... مفروشة بحصير، ولكل منا فراش ووسادة في هذا الفندق ذي الخمس نجوم، وحينما جلسنا لفتنا صوت طرقات هادئة منتظمة على الحصير!؟ وإذا بالسقف الترابي تحمله ألواح خشبية فيها سوس يسبح الله! كل ذلك لا يهم، المهم أننا وصلنا إلى دمشق لتحقيق طموحاتنا.
كثيرة هي محطات صحبتنا تلك؛ وحجم مقالتنا يجعلني أطوي كثيراً منها.
كانت له دروسه التي تناسبه، وعندما يجمعنا البيت في الأوقات البينية يبث إلي همومه وطموحاته واستشاراته... فبلاده رزحت تحت الاحتلال الروسي الملحد الذي نشر الرعب والجهل، إلى حد أن أكثر من يتولى الإمامة تنحصر معلوماته في كتاب واحد، بل إن بعض المحرمات الواضحة انتشرت في المجتمع دون نكير، وقد لا تصدقون - كما كدت لا أصدق- أن الضيافة التي يقدمونها في العزاء هي الخمر! وقد تبدلت العادات ودخلت البدع والمحرمات، وبعض تلك البلاد اندثرت فيها حفلات الأعراس وصار العرف أن يخطف الشاب الفتاة فيأخذها إلى أقرب شيخ يعقد له قرانه ليتهرب الأهل من تكاليف العرس... وعلى ذلك فقس!
كان يطرح المشكلات بحرقة، ويصغي إلى اقتراحات العلاج باهتمام، ثم يقول: (أنا مفتي داغستان)؛ يطمح أن يكون كذلك، لا للوجاهة، بل للإصلاح.
وكان يحدثني عن أحد قدواته: الإمام شامل الداغستاني "صقر القوقاز" الذي جمع المسلمين في مواجهة الروس الذين اضطروا للاعتراف بعظمته، وأنتجوا بأنفسهم فيلماً سينمائياً يحكي حياته وبطولاته.
علق أصل الدين كيس ملاكمة بعمود سقف الغرفة للتمرين في بعض أوقاته.
• كانت دمشق له محطة عابرة قبل أن يعود إلى داغستان:
- لتبشير أهله بنيله الشهادة الشرعية.
- لإكماله اختصاصه الجامعي في بلده ولم يبق له إلا فصل واحد.
- لخطبة فتاة تكون شريكة حياته.
- لتوصيل مئات الكتب التي اشتراها لبناء مكتبته الخاصة.
ومع قرب فصل الشتاء أمطرت الدنيا فدلف السقف الترابي علينا من بركات السماء مؤذناً بانقضاء الإجازة الصيفية.
ودّعت بطلنا وتوجهت إلى لبنان، بينما كانت تفصله عن عودته هو إلى بلده أيام.
ثم تلقيت اتصالاً من صديقنا يخبرني بأن أهداف أصل الدين أجيتوف تحققت أسرع مما كنا نتوقع! لقد توجه إلى داغستان لكنه تعرض لحادث سير تسبب بوفاته!!! رحمه الله تعالى.
نعم هذه "نهاية القصة". فعلاً صعقني الخبر! لكن منعني من اليأس أنها إرادة الله، والعمل لله، والأجر يكون على العزيمة والنية عند العجز. وخطر ببالي تلك اللحظة قول الله تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء: ١٠٠].
ولا أقرأ هذه الآية إلا تذكرت هذه القصة.
نعم هذه إشراقة أمل؛ تؤكد أن التجارة مع الله لا تخسر أبداً، أسأل الله أن يكون كتب له أجر إصلاح كل فساد في داغستان، دون الكثير الكثير من التعب والمخاطر التي كانت تنتظره.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة