إضاءات من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
السيرة النبوية الشريفة؛ مليئة بالمواقف والأحداث التي لا تنضب دروسها، لأنها سيرة خير البرية ورسول البشرية وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا التحقيق نعرض لبعض هذه المواقف التي كان لها أبلغ الأثر في النفوس على لسان علماء وأدباء ومفكرين ودعاة.
• يقول عالم الرياضيات المنصِّر السابق الدكتور الكندي «جاري ميلر»؛ أستاذ الرياضيات بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن عن القصص التي أبهرته ويعتبرُها من المعجزات هي قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي لهب.. يقول الدكتور ميلر: "هذا الرجل أبو لهب _ كان يكره الإسلام كرهاً شديداً؛ لدرجة أنه كان يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم أينما ذهب ليقلِّل من قيمة ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقبل 10 سنوات من وفاة أبي لهب نزلت سورة في القرآن اسمها سورة المسد.. هذه السورة تُقرِّر أنَّ أبا لهب سوف يذهب إلى النار.. أيْ أنَّ أبا لهب لن يدخل الإسلام.. وخلال عشر سنوات كاملة كلُّ ما كان على أبي لهب أن يفعله هو أن يأتي أمام الناس ويقول: "محمد يقول: إني لن أُسْلمَ وسوف أدخل النار، ولكني أعلن الآن أني أريد أن أدخلَ في الإسلام وأُصبحَ مسلماً!!"
لكنه لم يفعل خلال عشر سنوات كاملة!! لم يُسْلم ولم يتظاهر حتى بالإسلام!! عشر سنوات كانت لديه الفرصة أنْ يهدم الإسلام بدقيقة واحدة! ولكنْ لأن الكلام هذا ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه وحيٌ ممن يعلم الغيب ويعلم أن أبا لهب لن يسلم.
كيف لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن أبا لهب سوف يثبت ما في السورة إنْ لم يكن هذا وحياً من الله؟ كيف يكون واثقاً خلال عشر سنوات كاملة أنَّ ما لديه حقٌّ لو لم يكن يعلم أنه وحيٌ من الله؟ لكي يضع شخص هذا التحدي الخطير ليس له إلا معنىً واحد؛ هذا وحيٌ من الله.
• ويقول «نيكولاس توريجينوه» أستاذ اللغة العربية في جامعة "ملقا" بإسبانيا: أسلمتُ بسبب دراستي لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد بدأ اهتمامي بالأديان منذ صغري.. كنت تلميذاً في مدرسة كاثوليكية، وكنت أقرأ سير الأنبياء في التوراة والأناجيل، لكن ما أثَّر فيَّ بشدَّة كان قصة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويُضيف: فيما بعد كان علينا _ نحن طلاب الجامعة _ أن ندرس تاريخ إسبانيا، ومن ضمنه تاريخ الأندلس عبر كتب التاريخ المقارن، ونقدّم نبذة عن الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم.
ويستطرد: من هنا بدأتُ أبحث عن السيرة النبوية، ولكني لم أجد كُتُبَها _ في حينها _ مترجمة إلى اللغة الإسبانية، وبحثت عنها في المكتبات فوجدتها في المكتبة الفرنسية، وبدأت قراءتها بشغف وحبِّ استطلاع. ومن حُسْن حظِّي أنها سيرة تبدأ بقصة النبي صلى الله عليه وسلم مع سلمان الفارسي. وفيها ظهر لي بوضوح كيف أن هذا الرجل رسول الإسلام _ وهو في قمة انتصاراته ونجاحه السياسي والاجتماعي _ يتواضع مع سلمان الفارسي إلى هذه الدرجة، وسلمان دونه !
ويتذكر نيكولاس سيرة نبي الرحمة والتواضع والمحبة والقوة فيقول: في السنة الخامسة للهجرة وُضعت خطة حرب غادرة ضد المسلمين، على أن يهاجم جيشُ قريش وغطفان "المدينة" من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، وفُوجئ الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يومها بجيش كبير يقترب من المدينة، وسقط في أيدي المسلمين.
ويضيف نيكولاس: توقفتُ عند جمع الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليشاورهم في الأمر! فهو لم يكن حاكماً معتدّاً برأيه أو ديكتاتوراً محتقراً لغيره. وهنالك تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل له حبّاً عظيماً، واحتراماً كبيراً بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها؛ وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند رأي سلمان، ولم تكد قريش ترى الخندق حتى دوَّختها المفاجأة، وظلَّت قوَّاتها في خيامها شهراً؛ وهي عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريحاً صرصراً عاتيةً اقتلعت خيامَها، وبدَّدت شملها. ونادى أبو سفيان في جنوده آمراً بالرحيل إلى حيث جاءوا فُلُولاً يائسة منهوكة!!
ويضيف البروفيسور نيوكولاس: خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون؛ وهذا طبيعي، لكن الذي لم يكن عاديّاً أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحمل معوله ويضرب معهم في التربة، ويحمل الصخور والرمال !!
- ربما سمعتم بالكتاب الذي ألَّفه أحد الباحثين الغربيين حول "المئة الأكثر تأثيراً في التاريخ" The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History ؛ فهذا المؤلف بذل جهداً كبيراً ليبتعد عن هذا التصنيف، وبخاصة أن صورة الإسلام في الغرب مشوَّهة جدّاً، وربما يضرُّ ذلك بكتابه، وعلى الرغم من ذلك لم يستطع الهروب من هذه الحقيقة، وهي أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية!
يقول Michael H. Hart مؤلف الكتاب: "ربما تعجب عزيزي القارئ أنني وضعتُ اسم "محمد" على رأس القائمة في هذا الكتاب، ولكن هناك أسباب قوية لذلك؛ وهي أن محمداً هو الرجل الوحيد الذي استطاع النجاح على المستوى الديني والمستوى الدنيوي. إن تأثير محمد لا زال قويّاً على الرغم من مرور 14 قرناً، ومحمد هو القائد السياسي الوحيد الذي تمكَّن من إنشاء دولة قوية وناجحة دينياً وعلمياً، ولذلك فإنه مؤهل ليكون "الرجل الوحيد الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية".
• أما الهولندي آرنولد فاندرون أحد منتجي فيلم "فتنة" المسيء للإسلام في 2006؛ حين أدَّى شعائر الحج أعرب عن رغبته في أن يعيش بجوار قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. يقول: "خجلي تضاعف أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث جال بخاطري حجم الخطأ الكبير الذي وقعتُ فيه قبل أن يشرح الله صدري للإسلام، لقد قادتني عملية البحث لاكتشاف حجم الجرم الكبير الذي اقترفته".
- أما الدكتورة أسماء عدنان زرزور فقالت: "والله لا أعرف ماذا أكتب وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم كلُّها ملهمة بكل تفاصيلها؛ حيث أنها لم تخلُ ممَّا يجري على جميع الناس.. لكني سأذكر شيئاً أثَّر بي؛ كوننا اضطررنا إلى الهجرة من وطننا منذ زمن طويل. عندما اعتمرت في سنة من السنوات ذهبنا من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بالطائرة، كنت خلال مدة الرحلة أنظر إلى الأرض، إلى التلال والرمال الحارة، وأستحضر هجرته صلى الله عليه وسلم برفقة صاحبه الوفيِّ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، والتفتُ إلى صديقتي قائلة: "كم تحمَّل نبيُنا لأجلنا! لأجل أن يوصل رسالة ربِّه، ونحن نخذله.. عليك يا سيدي يا رسول الله أفضل الصلاة والسلام".
• وتحدثت الداعية الأستاذة رفاه المهندس قائلةً: "كنت صغيرة العمر عندما كان يتهدج صوت والدي بالحديث عن نسبنا الذي نتشرف بأنه ينتهي إليه صلى الله عليه وسلم ليبدأ التساؤل عن جَدِّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهل تكفينا شجرة العائلة المباركة لتوطيد أواصر القربى إلى سيد الخلق ومعلم البشرية وحبيب الرحمن [.
أم أن لهذه الوشائج المباركة حقوقاً عظيمة وديوناً مضاعفة لا يمكن سدادها؟
وبقي الأمر ذا شأن عظيم، وخاصة في الأعياد والمناسبات الكبيرة؛ حيث تمرر شعرة الحبيب المصطفى على أفراد الأسرة كبارها وصغارها، مَن كان منهم متوضئاً ليدعو الله بأحسن الدعوات؛ مستحضراً تقصيره، ومعاهداً أن يتلافاه قدر الوسع والطاقة.
لم تكن هذه المراسم لتضيع أدراج الرياح بل طبعت الحب للحبيب في قلب صغير لم يتبين بعد شأناً من شؤون الحب والحياة.
وما لبثت الكتب _ مما وقع تحت يدي آنذاك _ تسقي القلب؛ مع ما حرص عليه والداي من نسبة كلِّ عمل صالح إلى معلمنا صلى الله عليه وسلم ، وليقتديا بهديه اقتداء صادقاً فيما يتأكد لهما أنه سنة مباركة .
وبدأت أتعرف ملامح سيد العظماء من خلال سيرته العطرة [؛ فأكملت القصص الموثقة الصورة على حد فهمي، لكنني اليوم أرى أنَّ كلَّ كتب السير على سعتها لم تنقل عنه إلا بعض الإشارات التي حفظها الله لنا كمعالم لا بدَّ منها لشخصية عظيمة لا ندرك التقدير الكامل لها إلا بلقائها والسير على كامل منهاجها على أقل تقدير..
ولعلَّ أهمَّ المحطَّات الفاصلة في حياتي _ أضاءتها لي سيرتُه الشريفة _ صبرُه يوم خذلان ثقيف له بعد دعوته لأهل الطائف، وما سلَّطوا عليه صلى الله عليه وسلم من سفهائهم وحجارتها، ودعائه لهم بالمغفرة بعد ذلك على غير ما يدعو به حتى الأنبياء انتقاماً لدين الله ورسله.
وكذلك موقفه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وقوله صلى الله عليه وسلم وقد لخَّص التسامح الإنساني بأبهى صوَره: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»..
عدا الملامح العظيمة في كل المواقف الإنسانية اللافتة من تقديره للمرأة أمّاً وزوجاً وابنةً وأختاً ونصيرة ومتعلمة، إلى عنايته بالطفل أدبياً ونفسياً ومعنوياً ومادياً مما لا تحيط بتفنيده كتب ولا مجلدات.
قد أظلُمُ الحقيقة إن نسبتُ تأثري بومضات النور من تلقاء نفسي؛ إنما هو النور يقذف بالأنوار في الظلمات فيكشفها ضياءً لامعاً، لا ينفذ بريقُه حتى وإن فنيت السماوات والأرض، وإلى كتابة موسعة في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم أترك سطوري بين ما كتب على أمل اللقاء به صلى الله عليه وسلم في جنات عدن برحمة الله ومِنَّته.
• حياة البلي (أدب عربي-الجامعة اللبنانية)؛ تحدثت عن المواقف الثلاثة التي أثَّرت بها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم:
الموقف الأول: فتح مكة مع ما تجلَّى من رحمة وملحمة النبي صلى الله عليه وسلم... البعض يُريد أنْ يُفهِمنا أنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم كان "رحيماً" فقط، والبعض الآخر يريد العكس.. ولكن في فتح مكة يظهر جمعه صلى الله عليه وسلم للصفتين؛ إذ أمر بقتل أناس وإن تعلَّقوا بأستار الكعبة، وفي الوقت عينه عفا عن ثلَّة من الناس.. ثلَّة لا بأس بها من حيث العدد..
أما الموقف الثاني: فأثناء خروجه إلى الطائف.. رغم ما رآه من أذى من هؤلاء؛ إلا أنه رفض أن يُطبِق عليهم الجبلين مَلَك الجبال، وأراد أن يُخرج الله منهم من يعبده بحق..
الموقف الثالث: عند موته ووصيته التي جمع فيها أشدَّ الأمانات: «الصلاةَ وما ملكت أيمانكم».
- أما الشيخ مجدي عوَّاد فيقول عن أبرز محطات السيرة النبوية التي تأثَّر بها: "محطة الجهر بالدعوة واعتلاء الحناجر بالتكبير ودويُّه يعمُّ أرجاءَ مكة إيذاناً بالتحوُّل نحو مجتمع التوحيد.. وفتحُ مكَّة حيث تجلَّى موقف تجسَّدت فيه الرحمةُ حينما أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائدَه «جريج» أن يوقف الجيشَ من أجل كلبة وجرائها حتى لا تدوسها الكتائب الفاتحة لمكة.
يبقى السؤال، ما عسانا نفعل في هذه المناسبة؟
يُجيب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله على هذا السؤل في كتابه «نور وهداية» فيقول:
"قد عَظَّمنا الذكرى، فأقمنا الزينات في كل مكان، ونشرنا الأعلام، وأوقدنا المصابيح، وفرشنا الطرق بالزهور، وملأنا الجو خُطباً فِصاحاً وأغانيَ عِذَاباً، فهل بقي شيء لتكريمك لم نصنعه؟ لم يبقَ إلا شيء واحد، هو أن نعود إلى دينك حقاً، فُنحلُّ الحلالَ ونُحَرِّم الحرامَ، ونكون في أفرادنا وجماعاتنا وظواهرنا وبواطننا كما أحببت أن نكون.. وهذا هو الشيء الذي نسينا أن نصنعه في منهج الاحتفال بالمولد"!
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة