الإرهاب
كتب بواسطة د. محمد راتب النابلسي
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
25043 مشاهدة
يتحدَّث أعداؤُنا عن الإرهاب، ولا سيما في هذه الأيام حيث واتَتْهم الظروف، ونحن نقول لهم: إنه مولودٌ خرجَ مِن رَحِمِ الغطرسة والظلم والاستخفافِ بكرامةِ الشعوب، وثمرةٌ مُرَّةٌ لشجرةٍ غَرَسَهَا الأقوياءُ المستكبرون في نفوس المقهورين.
تُعلِّمنا الأحداثُ التي نشهدها كلَّ يوم في بلاد المسلمين أنَّ القوةَ البشريةَ مهما عَظُمَتْ فهي محدودة، وأنَّ العلمَ مهما اتَّسع فهو قاصر، وأنَّ الإنسانَ المتألِّي مصيره القصم، ففي رواية مسلمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ» [رواه مسلم].
إنَّ اعتمادَ القوةِ وحدَها، والحلولَ الأمنيةَ وحدَها لا يحقِّق الهدفَ ما لم يكن مصحوباً بدرجة عاليةٍ من الاستماعِ الجيِّدِ إلى الطرَف الآخر، فلَو أننا حدَّدنا مفهومَ الإرهابِ فلا يُؤخَذ المقاوِمُ بالمجرم، ولا الصالحُ بالطالح، ولا المُحِقُّ بالمُبْطِلِ، ولا يُؤْخَذُ العملُ المشروعُ بالعملِ المحظور؟!
ولو حدَّدنا مفهومَ الإرهابِ؛ عندئذ تستفيدُ الشعوبُ المظلومةُ مِن هذا التحديد، حيث يصبحُ كلُّ ما هو خارج عن إطارِ مفهومِ الإرهابِ المتَّفَقِ عليه لا يُدرَجُ اسمُه، ولا يُلاحَق على أنه مِنَ الإرهابيين.
ولانتعشتْ حركاتُ التحرُّر في العالَم _ وما أكثرَها _ في جهادها ونضالها للتحرُّرِ مِن هيمنةِ المستعمِرِ وطغيانه واستعباده.
فأعداؤنا لو فَعَلُوا وحدَّدوا طبيعةَ الإرهابِ الذي ينبغي أنْ يُدَانَ ويُحارَب؛ لأدَانوا أفعالَهم، وحاربوا أنفسهم بأنفسهم، فنحن نتحدَّاهم أنْ يُخرِجوا لنا تعريفاً للإرهاب؛ مِن دون أنْ يكونـوا هُم أوَّلَ المتلبِّسين به قَبلَ غيرهم، ومِن دون أنْ يكونوا قد اقترفوه في أقبحِ صُورِه قبل غيرهم.
إنَّ تحديدَ مفهومِ الإرهابِ يُظهِر جهادَ ومقاومةَ الشعب الفلسطيني ضدَّ الصهاينةِ المعتدين على أنه جهادٌ مشروعٌ، لا يندرِجُ تحت مفهومِ الإرهابِ الممنوعِ. لأجل ذلك هُم لا يريدون تحديدَ مفهومِ الإرهابِ الذي ينبغي أنْ يُحارَبَ، ليبقى ما هو محرَّمٌ على غيرهم مباحاً لهم، وليبقى شعارُ محاربةِ الإرهاب شعاراً مَطَّاطاً يُمكِّن الصهاينةَ مِنَ العدوان على الفلسطينيين كلما لاحتْ لهم أهمِّية ذلك بالنسبة لأَمْنِهِم ومصالحهم الذاتية.
إنَّ على الذين يتصدُّون لما يسمونه إرهاباً أن يسألوا أنفسهم: لماذا يُقْدِم هؤلاء الشبَّان على الموت؟ وسيجدُ هؤلاءِ أنفسَهم بحاجة إلى وِقفةٍ شجاعة تخلِّصهم مِن مسلسلِ الذُّعْر المنتظر، ومسلسل عداوات المقهورين.
إنَّ ردودَ أفعالِ المظلومين والمَوتورين لا يمكنُ التحكُّمُ في مداها ولا اتجاهها، وإنها تطيشُ متجاوزةً حدودَ المشروع والمعقول، مخترقةً شرائعَ الأديان، وقوانينَ الأوطان، وتَكفُرُ أوَّلَ ما تَكفُرُ بهذه القوانين التي لم توفِّرْ لها الحماية أولاً؛ فلذا لنْ تقبَلَها حاميةً لأعدائها. فإنَّ العلاجَ الأوَّلَ والحقيقيَّ هو نزعُ فَتِيلِ الظلمِ الذي يشحَنُ النفوسَ بالكراهيةِ والمَقْتِ، ويُعمي البصائرَ والأبصارَ عن تدبُّرِ عواقبِ الأمور، والنظرِ في مشروعيتها أو نتائجها.
وإنَّ أَحْرَصَ النّاسِ على حياةٍ _ وهم الصهاينة _ سيَظَلُّون في حيرةٍ عندما يتعاملون مع مَنْ يُلغِي حياتَه مِن حسابِ الأرباح، ويسجِّل نفسَه كأوَّلِ رقم في قائمة الضحايا. إنَّ أعظمَ ما يملكه القويُّ أن ينهيَ حياةَ الضعيف، فإذا أراد الضعيفُ أن يقدِّمَ أَثْمَنَ ما يملك _ وهي حياته _ لِزَلْزَلَةِ كيانِ القوِيِّ؛ صارَ هذا الضعيفُ أقوى منه. وقد قيل: بدأتِ الحربُ بالإنسان، ثم أصبحتْ بَيِن آلتين، ثم بين عقلين، ثم انتهتْ بالإنسان.
إنَّ الحديثَ عنِ القوةِ النابعةِ مِنَ الضَّعفِ ليس دعوةً إلى الرضى بالضَّعفِ، أو السكوتِ عنه، بل هو دعوةٌ لاستشعارِ القوَّةِ حتى في حالة الضَّعف.
إذاً يجب أنْ نبحثَ في كلِّ مظنَّةِ ضعفٍ عنْ سببِ قوةٍ كامنةٍ فيه، ولو أخلصَ المسلمون في طلبِ ذلك لوجدوه، ولصارَ الضَّعفُ قوةً، لأنَّ الضعفَ ينطوي على قوَّةٍ مَسْتورةٍ يؤيِّدُها اللهُ في حفظه ورعايته، قال تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً).
عندئذ ينتزِعُ المسلمون مِن هذا الضَّعفِ قوَّةً تُحوِّلُ قوَّةَ عدوِّهم ضعفاً، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ).
إنَّ مظاهرَ القوةِ لا تعني التَّناهِيَ ولا الإحاطة، ولكنَّ غرورَ البشر يجهل هذه الحقيقة، وتُسكِرُهُ نشوةُ القوَّة، فيقول: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).
الحذرَ الحذرَ من الوقوع في فِخاخٍ تُنصَبُ لأبناءِ أُمَّتنا العربيةِ والإسلاميةِ، قد يوقعهم فيها ذهولُ الصَّدمةِ، أو ثورةُ الحماسِ، إنَّ أكثرَ ما نحتاج إليه في أمورٍ كثيرة من حياتنا هو التوازنُ، والانطلاقُ من الثوابت الراسخة؛ مِن غير أنْ يُفْقِدَنَا التأثُّرُ بالأفعالِ وردودِ الأفعال الرؤيةَ الصحيحةَ.
إنَّ للمشاعر حقَّها في أنْ تَغْلِيَ وتَفُورَ، أمَّا الأفعالُ فلا بدَّ أنْ تكونَ مضبوطةً بهَدْيِ المنهجِ الربَّانيِّ، ولا يكون ذلك إلا بالرجوعِ إلى العلماء الربَّانيين الورعين، الذين لا يجاملون مصالحَ الخاصَّة، ولا يتملَّقون عواطفَ العامَّة. وقد كان العلماءُ على تعاقُبِ العصورِ صمامَ أَمَانٍ عندما تطيش الآراءُ، وتضطربُ الأمور: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً). فالعبرةُ ليست بِتَنْفِيسِ المشاعرِ وتفريغِ العواطفِ، ولكنَّ العبرةَ بتحقيقِ المصالحِ ودَرْءِ المفَاسِدِ.
نسأل الله تعالى أن يفرِّج عن الشام وعن فلسطين وعن العراق واليمن، وأن يحقن الدماء، ويرفع البلاء. آمــــيـــن.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة