حصون الأمة بين الاختراق والتدمير
إنَّ التَّرِكة التي ورثتها الأمَّة عن الاستعمار تَركةٌ ثقيلةٌ مرهِقةٌ، وأخطر ما فيها: هو اختراق الغرب للعقول والأفكار، وتمكُّنه من تشكيل طبقة من النُّخب في هذه الأُمَّة، وفق فكره وثقافته، وزرعها في موقع القيادة والتأثير والتغيير..
لقد سقطت معظم البلاد الإسلاميَّة تحت وطأة الاستعمار الغربيِّ، إذ لم تنقضِ الحربُ العالميَّة الأولى إلَّا والعالم الإسلاميُّ يرزح تحت نَير الاستعمار.. فتمكَّن من مدِّ نُفوذه إلى قلب العالم الإسلاميِّ، وتمَّت له السيطرة التامَّة على المسلمين، وكان ضَعف المسلمين هو السبب الأكبر للاستعمار، وليس العكس.. ثمَّ كان الاستعمارُ حريصاً على أن يقتلَ بقايا الخير في الأمَّة، وكلّ ومضَة من ومضات التحفُّز للنهوض لديها.. وكانت المدرَسة أول وسائله لتحقيق ذلك، وأقربها وأقواها تأثيراً..
يقول ساطع الحصريّ عن مناهج التعليم في سورية: "إنَّ النظمَ العديدة التي وضعتْ في سورية _ في عهد الانتداب الفرنسيِّ _ إنَّما وُضعت تنفيذاً لسياسة مرسومة بوضوحٍ وإتقانٍ... وإنَّ غاية هذه السياسة كانت تأمين سيطرة الثقافة الفرنسيَّة، والنظم الفرنسيَّة على معارف البلاد سيطرة مطلَقة، من غير التفاتٍ إلى ما تتطلَّبه أصول التربية السليمة والعلم الصحيح".
ويقولُ الدكتور عمر فرّوخ والدكتور مصطفى الخالديّ في كتابهما: "التبشير والاستعمَار": "كان للمبشِّرين غاية أخرى من التعليم العالي: هي أن يُؤَثِّرُوا في قادة الرأي، وفي الجيل الناشئ في الشرق الأدنى، ذلك التأثير الذي لا يمكن أن يتحقَّق إذا لم يكن ثمَّة تعليم عالٍ، وعلى هذا الأساس أوجد المبشِّرون البروتستانت كلِّيَّة بيروت عام 1862م، وجعلوا على رأسها دانيال بلس، هذه الكلِّيَّة أصبحت فيما بعد الكلِّيَّة السوريَّة الإنجيليَّة، ثمَّ هي اليوم الجامعة الأمريكيَّة في بيروت.. وحتَّى عَام 1922م كانت الجامعة الأمريكيَّة لا تزال تُصرُّ على تعليم التوراة..! وكانت روبرت في إستانبول هيَ كلِّيَّة نصرانيَّة غيرُ مستتِرة في تعليمها، ولا في الجوِّ الذي تهيئه لطلَّابها..
ويقول دانيال بلس: "إنَّ كلِّيَّة بيروت، وكلِّيَّة إستانبول ليستا أختين فقط بل همَا توأمَان، إنَّ هذه الكلِّيَّة _ يعني كلِّيَّة روبرت _ قد أنشأها مبشِّر، ولا تزال إلى اليوم لا يتولَّى رئاستها إلَّا مبشِّر"!..
وتقول المبشِّرة آنا ميلغيان: "في فصول كلِّيَّة البنات في القاهرةِ بنات آباؤهنَّ باشوات وبكوات، وليس ثمَّة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ النصرانيّ، وليس ثمَّة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرَسة".
ولا يخفى أنَّ هذه الأهداف المعلنة تتنافى مع قيم أيّ مجتمع وحرِّيَّته، إذ إنَّ معنى التنشئة الاجتماعيَّة هي تربية الأفراد في سبيل تحقيق أهداف المجتمع الذي يعيشون فيه.
يقول سر برسنن وهو يُعتبر من آباء التربية في إنجلترا: "سلك الناس مسالك مختلفة لتعريف التربية، ولكنَّ الفكرة الأساسيَّة التي لا يمكن أن يخلو منها أيّ تعريف: "أنَّ التربية هي الجهْد الذي يقوم به آباء شعبٍ ومربُّوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظريَّة الحياة التي يؤمنون بها، إنَّ وظيفة المدرَسة أن تمنح القوى الروحيَّة فرصة التأثير في التلميذ، تلك القوى الروحيَّة التي تتَّصل بنظريَّة الحياة، وتُربِّي التلميذ تربية تؤدِّي إلى الاحتفاظ بحياة الشعب" (1).
لقد مضى على الأمَّة عهد كان فيه للعلمانيَّة التغريبيَّة مدٌّ هائج، أشبه بالزَّبَد الطَّافي على وجه السيلِ، الذي يعتدي في طريقه على كلِّ شيء، أو عَيث اللصوص حين يغفُل صاحب الأرض عن أرضه، أو ينام عن حقِّه، ويصوِّر ذلك الدكتور محمَّد أمين المصريّ فيقول: "إنَّ المناهج في البلاد الإسلاميَّة ليست مصطبغةً بِصبغةٍ إسلاميَّة، وجوُّ المدرسة ليس جوّاً إسلاميّاً، وجلّ الأساتذة من حملة الشهادات ممَّن يتنكَّر للإسلام، أو يفهمه فهماً منحرفاً مائلاً عن الصواب، يبتعد فيه عن الإسلام ابتعاداً كبيراً على الغالب، وحملة الفكرة الإسلاميَّة قلَّة منبُوذون" (2).
ولا تزال الأمَّة تعاني وتعاني من آثار الاستعمار ولوثاته على كلِّ صعيد، وفي مناهجِ التعليم خاصَّة، والضحيَّة هي الطفولة الضائعة، والأجيال التائهة.. ولن تفلح الأمَّة إلَّا إذا تحرَّرت من تلك الآصار، واستعادت هوِّيَّتها بكلِّ وعي وإصرار.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة