فن التأثير في الآخرين
كتب بواسطة د. محمد راتب النابلسي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
2281 مشاهدة
الدعوة إلى الله _ خطاباً أو تدريساً _
نوع من أنواع القيادة الفكرية، ومن أُولى مقوِّمات القيادة امتلاك القدرة على التأثير في الآخرين. والدعوة إلى الله نوع من أنواع التربية، وهي في حقيقتها توجيه الأفراد توجيهاً صحيحاً في مختلف المجالات في العقائد والعبادات والمعاملات.
لذلك كان لزاماً على الداعية إلى الله أن يملك القدرة على التأثير في الآخرين، ليتمكَّن من تأدية رسالته المقدسة _ التي وقف نفسَه عليها _ تأدية كاملة أو قريبة من الكمال.
ويمكن للداعية أن يمتلك الكثير من مقومات "فنّ التأثير في الآخرين"؛ لأنَّ هذا الفنَّ ليس موهبة فطرية كليّاً، بل فيه نوعٌ من الكسب، فمِن مقومات التأثير في الآخرين:
ـ جلب انتباههم: والحركة بمعناها الواسع تجلب الانتباه، فتحرُّك المتكلم تحرُّكاً معتدلاً وذا معنى، وتحريك يديه ورأسه حركة ذكية مُعبِّرة، وتحريك عينيه لتقعا على كل مُستمِع، وتحريك الصوت بتلوينه ارتفاعاً وانخفاضاً بحسب المعنى والهدف، وتحريك الأسلوب بين الخبر والإنشاء، وبين الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبين الحوار والحَدَث؛ فإنَّ في الحركة جلباً لانتباه الآخرين، وجلبُ انتباههم شرطٌ لإحداث التأثير فيهم.
ـ وتُعدُّ القصة من أهم الأطر التعبيرية، ومن أوسعها انتشاراً، ومن أقربها إلى النفْس الإنسانية، وذلك لقدرتها على التغلغل في أعماقها، ولِما تتمتع به من إثارة وتشويق، ولِما تتركه في نفس المستمِع أو القارئ من أثر فكري وأخلاقي. فإذا كان مغزاها يتَّصل بحقيقة دينية أساسية؛ تركت أثراً كبيراً في إحداث تصورات ومواقف جديدة لدى المستمِع، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.
ـ ومن أساليب التأثير في الآخرين الاستعانة بالرغبات والحاجات: فمجرد إلقاء المعلومات لا يأتي بالثمرة المطلوبة ما لم تكن هذه المعلومات مرتبطة بالاهتمامات الحقيقية للشخص المستمِع، فالإنسان نادراً ما يتأثَّر عن طريق العقل المجرَّد، أو الحقائق الجافة التي ليس لها صلة بحياته.
ـ هذا وإنَّ معرفة خطوط دفاع الآخرين والتغلغل وراءها ضروري لإحداث الأثر المطلوب: فالإنسان _ عادة _ مستمسك بما هو عليه من تصورات ومواقف وتصرفات وعادات وتقاليد، وهو يدافع عنها، ويرفض كل تجديد؛ لأنه يدافع عن شخصيته ويؤكِّد ذاته. والتأثير في مثل هذا النوع من الناس صعبٌ؛ إلَّا إذا تمكَّن الداعية من تحطيم خطوط دفاعه أو التسلل وراءها، ليصل إلى حاجاته الأساسية أو سماته العميقة، ويستعين بها لإحداث قناعات جديدة.
إنَّ الداعية الحقيقي يختلط مع الناس ليفهم مشكلاتهم ويرشدهم إلى حلِّها، فالأنبياء اختلطوا مع الناس وشاركوهم كل ما في الحياة إلا الذنوب والآثام، قاسموهم كلَّ شيء إلَّا ضعفهم الفكري والخُلقي.
ولا يكون كلام الداعية مؤثِّراً إلَّا إذا توافرت فيه شروط منها:
ـ الإعداد العلمي الجيد: فينبغي أن يعرف المتكلِّم ماذا يريد أن يقول، وما الهدف من المحاضرة، ما الأفكار الرئيسية، ما الأدلة التي تدعم ما يذهب إليه، ما القصص المؤثرة التي توضح وترسِّخ ما يريد أن ينقله إلى الناس، ثم كيف يرتِّب وينظِّم هذه الأفكار والشواهد والأدلة والقصص، وما الذي ينبغي أن يُقال أوَّلاً؟ ولا بدَّ من محور تاريخي أو موضوعي أو شخصي تسير عليه الأفكار في حركتها وانتقالها، ولا بدَّ من التنويه عند الانتقال من فكرة إلى أخرى، ولا بدَّ من تلخيص الموضوعات الكبرى، فمِن الثابت أن الإنسان لا يُصغي عادة إلى الحديث المضطرب غير المنظَّم.
ـ وعلى الداعية الناجح أن يفكِّر بسامعيه، ما الموضوعات التي تَعنيهم؟.. فالموضوعات التي لا تتصل بحياة الناس ولا تتعلق بمشكلاتهم ولا تُجيب عن تساؤلاتهم؛ لا يجدون رغبة في متابعة الاستماع إليها.
ولا يستطيع الداعية الناجح أن يشدَّ الناس إليه إلَّا أن يعتقد الذكاء والنباهة في المستمعين، فلا يفرض أنهم لا يعرفون شيئاً، ولا يستطيعون أن يفكروا في شيء، عندئذ يخسر انتباههم، ثم يخسر تقديرهم، ثم يخسر وجودهم. بل يجب عليه أن يجعل المستمعين يفكِّرون معه، ويحملهم على أن يستنبطوا بعض الحقائق بأنفسهم، وهناك تفصيلات كثيرة لم يذكرها القرآن مفترضاً الذكاء والنباهة في القارئ، وقد قيل: " البلاغة بين الإيجاز المخل والإطناب الممل".
ـ والداعية الناجح لا يجعل بينه وبين المستمعين هوَّة كبيرة، بل عليه أن يبسِّط لهم الحقائق المعقَّدة، وييسِّر لهم سُبل الفهم باستخدام العبارة الواضحة المألوفة. إنَّ هذا الأسلوب هو ما يوصف بالسهل الممتنع، فهو سهل على المستمع، ممتنع على المقلد.
ـ والداعية الناجح هو الذي يستعمل الفكاهة الذكية الرَّصينة التي لا تجرح ولا تؤذي أحداً، فهي تجدِّد نشاط المستمع، وتقوِّي فيه الانتباه، وتعزِّز عنده الفهم، وتقيم نوعاً من الصلة المحبَّبة بين المتكلِّم والمستمِع.
ـ ويُفضَّل أن يمرَّ الداعية بنظره على كل مَن يستمِع إليه، فهذه النظرة تقيم اتصالاً روحيّاً بينهما، فضلاً عن أنها تشدُّ المستمِع إلى المتكلِّم، وتُعينه على متابعة الموضوع والتفاعل معه.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة