روح الكتب
لا تشتك من قلة الوقت.. ولكن اعمل
يقول الشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ:
صور وخواطر (مقال: السعادة):
لماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟.
كلفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به، والوقت يمر، أيامه ساعات،
وساعاته دقائق، لا أشعر بها، ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا
الموعد ولم يبق إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة
يوماً، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهراً وتبراً، واستفدت من كل لحظة حتى لقد كتبت
أكثره في محطة ( باب اللوق ) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس، وتدافع الركاب، فكانت
لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها، فلو أني فكرت كلما وقفت
أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرِّقة أجزاؤها _ لربحت شيئاً
كثيراً.
**** ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق
وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب
(قواعد التحديث) للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب.
***** والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائماً، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئاً من العلم فأَلَّف (الحاشية).
***** والسرخسي أَمْلَى وهو محبوس في الجب، كتابه (المبسوط) أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا.
وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يُضَيّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؛ انظروا كم
يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنه لو قرأ مثله _ لا أقول كل ليلة، بل كل أسبوع مرة _
لكان عَلاَّمَة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري
والسيوطي، والجاحظ، بل خذوا كتاباً واحداً كنهاية الإرب، أو لسان العرب، وانظروا، هل
يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كله، ونسخه مرة واحدة بخطه، فضلاً عن تأليف
مثله من عنده؟
والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد
بالعقل؟ لماذا لا نمكن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟
لا أذكر الفلاسفة و المخترعين، ولكن أذكركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم هو
الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لما امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها،
فأعاد المائة بخطئها وصوابها، والشافعي لماَّ كتب مجلس مالك بريقه على كفه وأعاده
من حفظه، والمعري لما سَمِع أرمنيين يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما
وهو لا يفهمه، والأصمعي وحمَّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد
وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، والمئات من أمثال هؤلاء؛ فتعجبون، ولو
فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون.
انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس، والبلدان، والصحف، والمجلات، والأغاني،
والنكات، والمطاعم، والمشارب، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل
من ذهنه ما يمر به كل يوم من المقروءات، والمرئيات، والمسموعات؛ فلو وضع مكان هذا
الباطل علماً خالصاً، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.
أعرف نادلاً كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنة اسمه (حلمي) يدور على
رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو شاياً، أو هاضوماً _ كازوزة _ أو
ليموناً، والقهوة حلوة ومرة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة
ويردد هذه الطلبات جهراً في نَفَسٍ واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحد حرفاً !.
انتهى.
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة