هل المتدين سويٌّ نفسياً ؟
كان للكاتب أنيس منصور ملاحظة طريفة على المسلسلات الدينية وهي أنها تقدِّم الكفار في صورة مبهجة؛ فهم مبتسمون ودمهم خفيف، في حين أن المسلمين متجهمون يصرخون طول الوقت؛ مما يجعلك تحب الكفار وتنفر من المسلمين. ويبدو أن بعض المتدينين قد تأثروا بهذه الصورة التي يقدمها الإعلام؛ فتراهم لا يضحكون "للرغيف السُخن" كما يقول المثل المصري. وترى حِدة في معاملاتهم وغلظة في تصرفاتهم، ويعتبرون ذلك دليلا على الجدية والأهمية التي يجب أن يتصف بها المتدين الحامل لهموم الأمة والدعوة، على حد تعبيرهم.
فهل فعلا المتدين لا يكون إلا كئيبا متجهما لا يستطيع الاستمتاع بالحياة، أو كما وصف أحد الملحدين حياته أثناء التدين بأنه شعر أنه بتدينه قد وقع في الفخ، في حين أن باقي البشر مستمتعون بحياتهم؟ ليكون السؤال الذي سنجيب عليه في السطور القادمة: كيف يكون المتدين سويا؟
في تعريف السواء النفسي تطرح أكثر التعريفات تداولا فكرة التكيف مع الحياة كأهم علامات السواء النفسي، وهذه هي مشكلة المشاكل عند المتدين؛ فهناك طرح غريب يتعامل على أن المتدين لا يستطيع أن يتكيف مع الحياة لأن الدنيا ليست داره، وأن حياته الحقيقية في الآخرة.
لتكون أول درجة في سلم السواء النفسي هي حالة الاعتدال والوسطية في التعامل مع الحياة، "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ"؛ فالإنسان يسعى في الدنيا مستمتعا بها مُعمرا لها؛ فالله عندما استخلفه في الأرض وعلمه الأسماء كلها لم يفعل ذلك ليعذبه أو ينغص عليه حياته، فهو يسعى ويبني ويُنمي ويطور ويبدع ويبتكر ويتزوج وينجب؛ ولكنه يلبي مع ذلك أشواق روحه وتتعلق نفسه بخالقه ويسعد وهو في محرابه مصليا داعيا متبتلا شاكرا حامدا بقلبه ولسانه، يرى الله في كل نعمة ويضعه أمامه في كل ما يعمله ويستعين به في سعيه في الأرض، تأخذ يده بالأسباب ويتوكل قلبه على خالقه، فهو إنسان ذو بُعدين، يعيش في عالمين: عالم الشهادة وعالم الغيب، في توازن وتفاعل وتناغم لا يطغى فيه شأن على شأن.
لنصعد إلى الدرجة الثانية في سُلم السواء النفسي للمتدين لتتوازن معاملاته مع عباداته، فيعامل الناس كما يحب أن يعاملوه، فيعطيهم حقوقهم بنفس درجة حرصه على حقه، فهو يعلم أن التطفيف مرفوض على كل مستويات التعامل وليس في الميزان فقط، وهو سمح إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى، فأيضا السماحة هي في كل المعاملات؛ حيث تجمع كلمة اقتضى كل تفاعل بين البشر، صغُر أو كبُر؛ ليفسح للناس في نفسه لأنه يعلم أن الأمر بالإفساح في المجالس لن يتحقق إلا إذا واكبه إفساح نفسي؛ فتصفو نفسه ويحمل الحب لكل الناس، فلا حقد ولا بغض ولا حسد ولا بيع على بيع أحد، ولا خطبة على خطبة أخيه، ولا غش؛ فمن غشنا فليس منا، ولا غيبة ولا نميمة ولا نظر إلى ما في أيدي الناس، ولا تتضارب ادعاءاته بالتدين مع مواقفه الحياتية، فهو لا يُخلف مواعيده ووعوده في الصغيرة قبل الكبير، في الوعد الذي يقطعه لطفله الصغير بهدية النجاح وفي الموعد الذي يضربه لصديقه ليقابله وفي الفسحة أو النزهة التي ألزم نفسه بها أمام زوجته.
لتكون الدرجة الثالثة وهو يرتقي سُلم السواء النفسي هو ألا يستخدم تدينه للاستعلاء على خلق الله وشعوره أنه أفضل منهم؛ فينظر للعصاة والمخالفين نظرة احتقار وتشفي ويرى تدينه مكانة توجب احترام الناس له بل يرى الإنسان المتدين متواضعا للناس جميعا ويشعر بنعمة الله عليه لهدايته؛ فيتمنى للناس الخير ويتألم لمعصيتهم فيحرص عليهم حرص الطبيب على شفاء مرضاه؛ "حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"؛ فالرأفة والرحمة عنوان التعامل فهو لا يعرف كِبرا ولا عجرفة، فنفسه لا تحدثه حتى بالسخرية من الآخرين بينه وبين نفسه لأنه "لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ"؛ وهو لا يكتفي بذلك بل يقول ويدفع بالتي هي أحسن لأن هذا مفتاح قلوب الناس، "فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، ليصبح من باب أولى ألا يفُجر في خصومة الناس ولا يتصيد هفواتهم لكي "يسلقهم" بلسانه وكأنه لا يكون متدينا إلا إذا أثبت خطأ الآخرين فهو يرحم الناس؛ فمن لا يرحم لا يُرحم؛ "وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"، وهو لا يؤذي أحد حتى الحيوان، فالمومس دخلت الجنة في كلب سقته والمرأة تقوم الليل تدخل النار لأنها تؤذي جيرانها.
ليصعد درجة رابعة لا يوزع فيها صكوك الغفران على الناس فهو لا يشغل نفسه بأحوال الناس والحكم عليهم وتقييمهم وتعيين نفسه وصيا عليهم، ولذا فهو يحمل شحنة إيجابية نفسية من العفو عن الناس حتى لو أساءوا إليه، فهو لا يقابل الإساءة بالإساءة بل يقابلها بالإحسان، فرسوله الكريم عفا عن أهل مكة الذين أخرجوه وحاربوه وقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وهو يقبل وجود الآخر المختلف لأنه يعلم أن اختلافه فيما يحمل من أفكار هو حقه في الحياة؛ لأن الله خلقنا مختلفين وسنبقى مختلفين ويعلم أن هذا ليس تسامحا منه بل هو جزء من طبيعته؛ فالتدين يوسع الصدر ويوسع العقل على عكس ما يتصور الناس؛ لأننا لم نسع الناس بأموالنا ولكن نسعهم بأخلاقنا وقيمنا ولذا كان الأقرب مجلسا من الرسول هم أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا.
لتكون الدرجة الخامسة من السواء النفسي عنوانها أن الله جميل يحب الجمال وأن الله قد كتب الإحسان على كل شيء فهو يرى الجمال في الكون كله ويحرص عليه ويسعى إليه بدءًا من ابتسامة تعلو وجهه؛ لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وانتهاءً بحرصه على مظهره وملبسه وزينته بل ورائحته وهو يرى إبداع الله في خلقه فاللمحة الجمالية المبدعة في كل شيء، في السموات وفي البحار وفي الجبال وفي الطيور وفي عالم الحيوان؛ تريح العين وتسعد النفس حتى تراه واقفا أمام مشهد الغروب وقوف المتعبد في محراب الجمال؛ ولذا فإنه يتلمس الجمال في كل الفنون التي يحاكي فيها الإنسان روعة خلق الله فهو يتذوق كل أشكال الفن وتسعد بها نفسه.
بالطبع ما زالت هناك درجات على سلم السواء النفسي للمتدين ولكننا صعدنا خمس درجات أساسية ومهمة ليكون المتدين السوي متصالحا مع نفسه متصالحا مع ما حوله متناغما مع الكون؛ فهو منشرح الصدر باسم الثغر حلو المعشر مهندم المنظر محسن للناس، متسامح، متفائل، يرى الكون والناس بعين الحب والرحمة، معتدل وسطي يعيش على الأرض وتتعلق روحه بالسماء، وهو أمر يُحصله من يعلم أن التدين ليس مجرد طقوس ولكنه روح تسري في الكون؛ حتى يتعارف الناس ويتعاونوا على البر والتقوى، وأنه لا تعارض بين إعمار الأرض وإعمار الآخرة.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة