وقفة مع حقيقة التدبّر
التدبُّر الذي خصَّ الله به القُرآن وأمر به، وحثَّ عليه في مواطن عديدة، وبدونه تصبح تلاوة القُرآن صورةً لا حقيقة لها ولا روح فيها..
وفي الآية الكريمة أعلاه يأمر الله تعالى عباده بتدبُّر كتابه، والتدبُّر هو التأمُّل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه ولوازم ذلك. فإنَّ تدبُّر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يُستنتج كلُّ خير، وبه يزداد الإيمان في القلب، وترسخ شجرته.
فإنَّه يُعرِّف بالربِّ المعبود، وما له من صفات الكمال والجلال والجمال، وما يتنزَّه عنه من سمات النقص، وبه يعرف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عنده من التكريم والنعيم، وبالتدبُّر يُعرف العدو الذي هو العدو الحقيقي، وتعرف الطرق الموصلة إلى العذاب وأهلها.
وكلَّما ازداد العبد تأمُّلاً في القُرآن ازداد علماً وعملاً وبصيرة، لذلك أمر الله به، وحثَّ عليه، وأخبر أنَّه المقصود بإنزال القُرآن، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ}.
ولو تدبَّر الناس كتاب الله تعالى حقَّ التدبُّر؛ لدلَّهم على كلِّ خير، ولحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، ولَملأ قلوبهم من الإيمان واليقين، ولأوصلهم إلى المطالب العالية والمواهب الغالية، ولَبيَّن لهم الطريق الموصلة إلى الله وإلى مرضاته وجنَّته، والطريق الموصلة إلى العذاب وسخطه، ولعرَّفهم بربِّهم سبحانه وأسمائه وصفاته، وعظيم نعمه وإحسانه، ولشوَّقهم إلى جزيل ثوابه.
ومن فوائد التدبُّر لكتاب الله: أنَّه يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنَّه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو يصدِّق بعضُه بعضاً، ويوافق بعضُه بعضاً. فترى الحِكَم والقصَّة والأخبار تعاد في القرآن في عدَّة مواضع، وكلّها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضُها بعضاً، فبذلك يُعلم كمالُ القرآن الكريم، وأنَّه من عند من أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، فلذلك قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أي: فلمَّا كان من عند الله لم يكن فيه أيّ اختلاف أو تناكر.
والله تعالى يتساءل في استنكار: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ}.. وتدبُّر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرِّك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير..
والبديل عن التدبُّر أن تكون القلوب مقفلة مغلقة:
{أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} فهي تحول بينها وبين القرآن، وبينها وبين النور، فهي قد أغلقت على ما فيها من الشر وأقفلت، فإنَّ استغلاق القلوب كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!
• قال ابن جرير رحمه الله: أي: أفلا يتدبَّر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في القرآن الذي أنزله على نبيِّه عليه الصلاة والسلام، ويتفكرون في حججه التي بيَّنها لهم في تنزيله، فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون؟ {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}؟ أي: فلا يصل إليها ذكر، ولا ينكشف لها أمر.
وتنكير القلوب للإشعار بفرط جهالتها ونُكرها، كأنها مبهمة منكورة. والأقفال مجاز عما يمنع الوصول. وإضافتها إلى القلوب لإفادة الاختصاص المميِّز لها عمَّا عداها، وللإشارة إلى أنَّها لا تشبه الأقفال المعروفة؛ إذ لا يمكن فتحها أبداً.
• ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: وإذا سمعت كلمة (أفلا) فاعلم أنَّ الأسلوب يقرِّع من لا يستعمل المادة التي بعده. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآن} أي كان الواجب عليهم أن يتدبَّروا القرآن. فهناك شيء اسمه: (التدبُّر)، وشيء اسمه: (التفكُّر)،وثالث اسمه: (التذكُّر)، ورابع اسمه: (العلم)، وخامس اسمه: (التعقُّل).
ووردت كل هذه الأساليب في القرآن: {أفلا يعلمون}،{أفلا يعقلون}،{أفلا يتذكرون}، {أفلا تتفكَّرون}. هي إذن: تدبر، تفكر، تذكر، تعقل، وعلم.
والحق يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآن} والتدبر هو كل أمر يُعرَض على العقل له فيه عمل، فتفكر فيه لتنظر في دليل صدقه؛ هذه أول مرحلة، فإذا ما علمت دليل صدقه فانظر النتيجة التي تعود عليك لو لم تعملها. و(تتدبر) تعني أن تنظر إلى أدبار الأشياء وأعقابها، فالرسول يبلِّغك: الإله واحد، ابحث في الأدلة بفكرك، فإذا ما انتهيت إليها آمنت بأنَّ هناك إلهاً واحداً.
فالتدبُّر مرحلة بعد التفكُّر، فالتفكُّر مطلوب أن تتذكَّر ما عرفته من قبل إن طرأ عليك نسيان. فالتفكُّر يأتي أولاً، وبعد ذلك يأتي التدبُّر.
فأول مرحلة هي: التفكُّر، والثانية هي: التدبُّر، فإذا غفلت نقول لك: تذكر ما فكَّرت فيه، وانتهيت إليه، وتدبَّر العاقبة، فهذه كلّها عمليَّات عقليَّة: فالتفكير يبدأ بالعقل، والعقل ينظر أيضاً في العاقبة، ثمَّ تعمل الحافظة لتذكِّرك بما فات.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة