فلسطين في السينما.. بين التطبيع والتضييع!
جدلٌ كبيرٌ يجتاحُ الأوساط الثقافية الفلسطينية هذه الأيام، حول منع فيلم "القضية 23" للمخرج اللبنانيّ المثير للجدل زياد دويري، حيثُ لا يحظى المخرجُ المذكور بقبولٍ فلسطينيّ، إذ يُتّهم بالتطبيع مع الاحتلال، من خلال الاشتراك والتعاون مع صهاينة محتلّين في إنتاج فيلم "الصدمة" سنة 2012، ورفضه الاعتذار عن ذلك، بل وافتخاره فيما بعد بهذه التجربة.
الجدل حول دويري ومنعه، أعاد الحديث عن فيلم "الصدمة" هذا، وبعد مشاهدتي للفيلم أظنّ أنّ جريمة الدويري أكبر من مجرّد التطبيع، إنّه متصهين بالكلية. ثمة رأي يقول: إنّ مناهضة التطبيع تستلزم رفض العمل كليًّا، بما فيها مناقشته، وأنّ مجرّد الانجرار من مربّع الرفض، إلى مربع مناقشة المحتوى هو تنازلٌ وانخداع إن صحّ التعبير. أنا حقيقةً لا أرى تعارضًا في الأمرين، إذ أنّ رفض هذه الأفلام، والسعي في مقاطعتها أو منعها، ليس كافيًا إطلاقًا، لابدّ من فضح العوار الذي تضمنته أيضًا.
فيلم "الصدمة" ليس مجرّد عمل تطبيعيّ يشارك فيه ممثلون وسينمائيون صهاينة، بل هو عمل متصهين بامتياز! يدّعي أن كل فلسطينية فجّرت نفسها -باستثناء بطلة الفيلم- هي إما عاقر أو مطلّقة أو تريد "غسل عار" العائلة! ماذا يريدُ هؤلاء؟! أن تفجّر أمٌّ نفسها؟! قد حصل إذن كما في حالة ريم الرياشي، كانت تعيش حياة نموذجية، ثمّ قضت في عملية، هل نحضر طفليها ليشهدوا أمام دويري وفيلمه!
أكثر ما أزعجني في فيلم الصدمة هو التزوير، هو جريمة فوق التطبيع، حصلت عمليات تفجير كثيرة في فلسطين المحتلة، لكن واحدةً منها لم تستهدف عيد ميلاد طفل أو ما يشبه ذلك.
لم تقتل حركات المقاومة الفلسطينية طيلة حربها مع العدوّ أطفالًا تقصّدًا كما يفعل الاحتلال، فليخبرني أحدٌ عن عملية قُتل فيها سبعة عشر صهيونيا جلهم من الأطفال! بينما أعداد أكبر من هذا بكثير دفنوا في ركام بيوتهم، وفي حجور أمهاتهم بالقذائف التي ألقتها عليهم طائرات الاحتلال عن سبق إصرار وترصّد.
في فيلم دويري تُفجّر الفلسطينية نفسها بسبب مجزرة رأتها في جنين، لكن الفيلم يذكر المجزرة على عجل، ولا يصوّر شيئًا من مشاهدها، بينما يصوّر في لقطات شديدة الحزن الأطفال الصهاينة الغارقين في دمائهم، وصرخات آبائهم وأمهاتهم.
أنا أتحدّى أن تكون كاميرات الاحتلال التقطت ولو مرّة واحدةً مشاهد حقيقية تُشبه ما صوّره دويري، لكنني مستعدٌّ بالمقابل أن أريه عشرات المقاطع لأطفال فلسطينيين يفوق ما افتراه في فيلمه، قد يكون مشهد هدى غالية غارقةً في دماء أبيها وإخوتها في رحلتهم على بحر غزة جيدةً ليراجع دويري معلوماته من خلالها.
دويري ليس مجرّد مطبّع، بل هو متورّطٌ حتى أذنيه في الدعاية الصهيونية، وبعد حضور فيلمه هذا، كم أستغربُ أن يشترك معه فلسطيني يدّعي الوطنية في عمل، والأنكى أن يعُدّ اشتراكه هذا وما يناله به من تكريم انتصارًا لفلسطين! قد تكون هذه مزايدة وطنيّة! لا مشكلة لديّ، تبدو مستحقّةٌ جدًّا.
مشكلة القضية الفلسطينية مع السينما أكبرُ من مجرّد التطبيع الفنّي، وهو بالنسبة إليّ جُرمٌ كبير، لكن الجُرم الأكبر هو طبيعة تناول فلسطين في السينما! والتزوير الذي يطالُ القضية، وهذه الكارثة في الحقيقة تتجاوزُ المطبّعين، بل يقعُ فيها كثيرٌ من الفنانين الملتزمين بالقضية وذوي السمعة الطيبة، مع الفارق في المحتوى والدوافع.
هاني أبو أسعد مثلًا، قدّم أعمالًا قويّة فعلًا، ونالت أفلامه احتفاءً وحضورًا قويين، وكانت متقنةً بدرجةٍ كبيرة، لكنها احتوت كثيرًا من المغالطات أيضًا.
لديّ شعور أن المخرجين العرب يضعون نُصب أعينهم رضا الدوائر الثقافية الغربية عما يقدمونه، ويقدّمون للغربيّين ما يحبّون أن يسمعوه عن فلسطين، لا ما يجب أن يسمعوه، الغربيّ يحبُّ أن يرى في السينما فهمه المُسبق لطبيعة القضيّة، أو وهمه عنها بالأحرى، ولا يحبُّ أن يراها على حقيقتها، وهذا ما يقدّمه له المخرجون العرب في العادة.
في فيلمه "الجنّة الآن"، يقع أبو أسعد، بدوافع نبيلة ربّما، في مثل ما وقع فيه دويري مع فارق ما بينهما، إذ يصوّر الاستشهاديين متوجّهين للجنّة، لأنّ الدنيا ضاقت عليهم، وأغلقت أبوابها في وجوههم! ولأنّ الظروف التي يُعدّ الاحتلال أحد أسبابها دفعتهم إلى ذلك، لا أنّ السبب هو كون بلادهم ترزحُ تحت الاحتلال، ولأنّ هذا الاحتلال لا يكفّ بعد سرقة الأرض عن سفك الدم.
أذكرُ أنّ والد أحد الاستشهاديين حدثني عن حوارٍ مثير له مع صحفيّ غربيّ، سأله الصحفيُّ عن دور "الحور العين" في تشجيع ابنه على خوض العملية! فاستهجن الرجلُ سؤاله، وأجابه: إنّ ابني لم يذهب إلى المستوطنة بحثًا عن الحور العين، بل كان عائدًا إلى بلده، إنّ ابني من عسقلان، وسلك طريقه شمالًا عائدًا إليها، وجد في طريقه احتلالًا، فقاتله حتى قُتل!
حدّثني أنه كان أيضًا حريصًا على اصطحاب الصحفيين إلى غُرفة ابنه/الاستشهاديّ، وكيف كانوا يقفون مذهولين حين يرون غرفته الواسعة الأنيقة، ذات النافذتين الضخمتين، ذكر أنّ أحدهم نظر إلى مكتب ابنه الدراسيّ، وعلّق مستغربًا: إنه أحسن من مكتبي!
حين حضرتُ فيلم "الجنة الآن" شعرتُ ببُعده الكبير عن واقع الفلسطينيين، الاستشهاديون العاطلون، والوصية التي ألقاها "الممثل خالد/الاستشهادي" أمام الكاميرا، والتي كانت أشبه بخطبة لصائب عريقات، ثمّ المقاوم الذي يرسلهم للموت ويتناول طعامه بينما يسجلون كلماتهم الأخيرة، ثم يحدد في بلاهة أيهما يفجر نفسه أوّلا بناءً على إجابته إن كان وجه العملة نقشًا أم كتابة! هكذا يصور "أبو أسعد" المقاومين يعبثون بحياة ضحاياهم!
أفهمُ أنّ أبو أسعد يخاطبُ الغرب، وأنّ الدعاية اليوم تغلبُ الحقيقة، وأن لا أحد يحرصُ على الصدق في العالم، بقدر حرصه على إيصال رسالته، والتي أومن بنُبلها في حالة أبو أسعد، لكنّنا نريدُ أن نتأكد حين نرى فلسطين في السينما، أننا نرى فلسطين فعلًا.. لا شيء آخر!
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة