ذاكرة الأطفال غصة يقظة!
ما أكثر ما يستهين الآباء والمربُّون بذاكرة أطفالهم، ومحاكمات عقولهم، وبراءة فطرتهم، فيُلقون عليهم الإجابات الخطأ، ليتخلَّصوا من أسئلتهم المحرجة، ثمَّ تأتي مواقف تالية فيربط الطفل بذاكرته الحيَّة الموقف الحاضر بالمعلومة السابقة الخطأ، ويركِّب سؤالاً جديداً أبلغ في الإحراج لوالده أو أخيه أو مربِّيه.. من سابقه . وهنا يقف المربِّي أعجز وأعجز عن الجواب، وكثيراً ما يتهرَّب من الحرج بالكذب، فيخسر مع الزمن ثقة الطفل والناشئ، وربَّما كان الطفل جريئاً، فصارح المربِّي بتناقض كلامه فأوقعه في الحرج أكثر، ولم يستطع الخروج من هذا المطبِّ إلَّا بمزيدٍ من الكذب، ومزيد من خسران الثِّقة..
وكان أولى بالوالد والمربِّي من أوَّل الأمر أن يقول للطفل بكلِّ بساطة: لا أعلم، وسأبحث لك وآتيك بالجواب الصحيح والمعلومة الصحيحة.
وفي ذلك تعزيز لثقة الطفل بمربِّيه، ودرسٌ عمليٌّ للطفل ألَّا يتكلَّم بغير علم، وأن يبحث عن المعلومة الصحيحة الموثوقة، لا أن يتلقَّف الكلام بغير علم، ممَّن هبَّ ودبَّ..
إنَّ أمثال هذه المواقف وما أكثرها! تنطلق من افتراض مثاليَّة في المربِّي بعيدة عن الواقع كلَّ البعد، فهو يعلم كلَّ شيء، وهو مصدر كلِّ معلومة، وهو يقدر على كلِّ ما يطلب الطفل.. وعندما يصطدم الطفل بغير ذلك تهتزُّ ثقته بنفور وردَّة فعل بعيدة عن الواقع وغير متَّزنة.. ويضطرُّ المربِّي كذلك أن يدافع عن تلك المثاليَّة الموهومة بأوهام وأكاذيب، يعلِّق طفله بها.. في دورة سيِّئة مقيتة من التلبيس والخداع.. ومرَّة أخرى يكتشف الطفل الأمر ولا يخدع.. وما أهون الأمر وأيسره من أوَّل الطريق؛ أن يعرف الطفل الحقيقة بغير تزييف ولا تزوير..
ويخطئ كثيرٌ من الآباء كذلك والمربّون عندما يضعون الأطفال دائماً في موقف المتلقِّي المأمور، وكأنَّه آلة عمياء صمَّاء، لا قدرة لها ولا إرادة.. ويفرضون لأنفسهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون عصمة في كلِّ ما يملون عليهم ويقرِّرون. وهذا ما يجعل بينهم وبين الأطفال حاجزاً يزداد مع الأيَّام غلظة وكثافة، ولا تثمر تربيتهم إلَّا شخصيَّة مضطربة قلقة..
أيُّها المربِّي! وطِّن نفسك على أن تتعلَّم من طفلك كما أنَّك تعلِّمه، وأن تصارحه بحالك دون تزوير.. بل إنَّ الموقف الصغير ربَّما عاد عليك بأبعاد كبيرة في تحسين تعليمك وأدائك، واكتشاف مكونات شخصيَّة طفلك واستعداداته.. وكم تعلَّمنا من أطفالنا وهم لا يشعرون!
أيُّها الكبار.. في الأطفال فطرة هي مَنجَم ثمين لكلِّ خير ورشد وموهبة وإبداع؛ ما أحرى بالآباء والمربِّين أنْ يكتشفوها ويحسنوا التعامل معها، لا أن يظنُّوا بهم البلاهة، ويعاملوهم بسطحيَّة في التفكير وسذاجة.. وفي ذلك يقول الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى:
«خمس خصال في الأطفال لو كانت في الكبار مع ربِّهم لكانوا أولياء: لا يهتمُّون بالرزق، ولا يشكون من خالقهم إذا مرضوا، ويأكلون الطعام مجتمعين، وإذا خافوا جرت عيونهم بالدموع، وإذا تخاصموا تسارعوا إلى الصلح». (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) ١ / ١٧٤.
وإليكم هذا النموذج التربويَّ الفذَّ في حسن التعامل مع فطرة الطفل في التدريب على الصلاة، الذي يحترم شخصيَّته، ويعلم أن ذاكرة الطفل حيَّة يقظة؛ تختزن المواقف وما يصحبها من مشاعر، وتشكِّل السلوك السويَّ الذي ينمو مع نموِّ الطفل، ويكون خير زاد له في بناء شخصيَّته ورسم مستقبل أيَّامه..
يقول أحد الإخوة المربِّين الأفاضل: «الانضباط الجماعيّ المنزلي في العبادة يقوم بإحداث التناغم بين أهل البيت جميعاً، فيقوِّي الضعيف، ويساند المقصِّر، ويعالج هنات النفس حتَّى تقوى على طاعة الله. والطفل دون السبع سنوات نتركه براحته، أحياناً يقلد؛ فإذا أحبَّ ذلك ساعدناه بلباس الصلاة الخاصِّ بالبنات، مع سجَّادة خاصَّة، أو بسجادة خاصة للأولاد، لكنْ تبدأ بذور الدِّين تَنبت مِن وجودهم في غرفة الصلاة ومشاهدتهم للشعائر، وتلك المشاهدات هي التي تحفر في نفس الطفل التجربة الإيمانيَّة.
وإشراقات الإيمان التي ينعم بها الله على الأطفال، وقدرتهم على الاستشراف؛ تنشئ الروابط بينهم وبين دينهم وعبادتهم وربهم، وتكبر معهم.
وانظروا إلى أثر ذلك المشهد العمليّ التدريبيّ: خمس صلوات × 365 يوم = 1825 مشهد صلاة.
فمِن سنِّ 4 سنوات إلى 7 سنوات= 3 × 1825 = 5475 مشهد صلاة يراها الطفل، ويشارك فيها بعفوية ورغبة دون الأمر المباشر بها، فالأمر حسب الهدي النبويّ، يبدأ من السابعة، أمَّا الرابعة فهو بداية التكون المعرفيِّ والاستيعاب التامِّ لما يُقدَّم له كطفل.. تلك المشاهدات والقدوة في البيت هي التي تساهم في صناعة الإنسان المتمسِّك بدينه، المعتزِّ بهوِّيته.
أسأل الله أن ينبت أبناء المسلمين نباتاً حسناً، وأن يجعلهم من الصالحين المصلحين. آمين».
المصدر : مجلّة إشراقات
الكلمات الدالة : علماء التربية التربية تربية الأطفال مدرسة . أطفال أطفال مناهج تعليم تعليم الأهل أهل الأسرة أسرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن