معضلة عربية مع الإعلام الأجنبي والمؤسسات الحقوقية
لا يكاد يوم يمرّ إلا ويخرج مصدر رسمي، معلن أو غير معلن، من نظام عربي ينفي ما أوردته هذه الجهة أو تلك من وسائل الإعلام الأجنبية، أو هذه المؤسسة أو المنظمة أو تلك من المنظمات الحقوقية.
أحياناً يتوقف الأمر عند هذا الحد، فيما يتم تجاوزه أحياناً بهجوم على الجهة المعنية، أو اتخاذ موقف منها، رداً على «جنايتها»، والموقف هنا يتباين من حالة إلى أخرى.
تستحق هذه القضية بعض التوقف، لا سيما أنها باتت واسعة النطاق، تحديداً منذ الانقلاب على مسيرة الربيع العربي، وهو انقلاب حمل ما حمل من انتهاكات رهيبة لحقوق الإنسان، إن على صعيد القتل المباشر والتدمير، أو على صعيد الاعتقالات والتعذيب والأحكام الجائرة والإخفاء القسري، فضلاً عن ضرب الحريات بشكل عام.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يتجاوزه إلى قضايا تتعلق باتصالات سرية مع جهات ما، وصفقات سرية مع هذا الطرف أو ذاك، أو مواقف لا يُراد الإعلان عنها، أو عمليات بيع وشراء وفساد من كل لون.
في الردود الرسمية على ذلك كله، لا تعثر في أكثر الأحيان سوى على مواقف تراوح بين النفي الكامل، وبين ما دون ذلك من توضيحات، مع قليل من التبرير أو التوضيح، حين لا يكون الموقف قابلاً للنفي، كما هو الحال مع لقاء هنا أو هناك أعلن عنه الطرف الآخر، كما حال الصهاينة الذين غالباً ما يفضحون من يلتقون معهم، سريعاً أو بعد حين، حسب تقدير مصلحتهم، ما لم يتم الأمر رغماً عن السياسي، حين يتسرّب لجهات إعلامية.
لا شك أننا نتحدث عن مسألة بالغة التعقيد لا يمكن إجمالها بسطر أو سطرين، كأن نقول إن وسائل الإعلام الأجنبية موجّهة وكاذبة في كل ما تقول بشأن منطقتنا، أو أن المؤسسات الحقوقية موجّهة، أو تتبع جهات تستهدف هذا النظام أو ذاك، أو الأمة العربية في الإجمال، فضلاً عن أن نتحدث عن وسائل إعلام أجنبية ناطقة باللغة العربية، ونقول إن لهذه أجندتها الخاصة.
كل ذلك له حضور في المسألة، فالإعلام الأجنبي ليس نزيهاً بالكامل، والمؤسسات الحقوقية ليست كذلك أيضاً، ويمكن لها أن تتورط في أخبار أو تقارير كاذبة، أو تنطوي على بعض الكذب أو المبالغة، إن كان قصداً، أم بسبب خلل في المصادر التي استندت إليها.
هذا من حيث المبدأ، أو القراءة التحليلية للقضية، لكن متابعتنا لما جرى ويجري، يجعلنا أكثر ميلاً إلى التعاطي بجدية مع ما يرد في الإعلام الغربي الذي يحترم مصداقيته (الروسي مثلاً يمارس الكذب المبتذل دون ضابط)، ومن المؤسسات الحقوقية التي تحرص على مصداقيتها أيضاً، لا سيما حين نعرض ما يرد فيها على منطق التحليل، ولا نكتفي بالتسريب الذي يحدث أن يكون موجهاً من هذا الطرف. ذلك أن التحليل هو الذي يفكك العقد، إذ ما حاجة صحيفة غربية كبرى، على سبيل المثال، لنشر خبر عن صفقة عقدها ذاك النظام، ولا تؤثر عملياً على منظومة السياسة العامة المتعلقة بمصالح بلدها، ولا حتى بواقع الجهة المتهمة، اللهم إلا فيما يتعلّق بموقفها أمام جمهورها.
وما حاجة مؤسسة حقوقية إلى نشر تقارير كاذبة عن وقائع القتل والتعذيب في سوريا، وهل هناك عاقل لا يعرف ذلك، حتى لو حدثت بعض المبالغات التي أوردها بعض شهود العيان الذين استندت إليهم المؤسسة، مع أن هناك طرائق معينة في فرز الشهادات يعرفها المعنيون؟!
قد يستثنى من ذلك تلك المؤسسات التي تعنى بقضايا اجتماعية، ولها أجندات واضحة، وهذه قد تضخم أشياء صغيرة تبعاً لحسابات تتعلق بأهدافها، لكن المسار العام هو أن وسائل الإعلام الكبرى في الغرب، والمؤسسات الحقوقية تحرص على مصداقيتها (نتحدث عن الأخبار وليس الآراء)، بينما لا نرى ذلك في المؤسسات الحقوقية العربية (فضلاً عن وسائل الإعلام) التي تمارس المناكفة والنكاية في وضح النهار.
نقول ذلك، ونحن ندرك أن أي انحياز من قبل المؤسسات الغربية الرسمية لن يكون إلا لصالح الأنظمة، تلك التي باتت أكثر التصاقاً بالنظام الإمبريالي، بعد الربيع العربي، ما يعني أن الاتهام ينبغي أن يُوجّه لتلك المؤسسات بالتغاضي عن فضائح الأنظمة، أكثر من نشرها انحيازاً للجماهير المطحونة بالقمع والفقر والفساد، لأن الأولى (الأنظمة) هي التي تحقق مصالح الغرب والقوى الإمبريالية أكثر بكثير من الجماهير التي تنحاز لقضاياها الكبرى في الحرية والتحرير والاستقلال الحقيقي من الهيمنة الخارجية.
بقي القول إن المال الذي طارد ربيع العرب بدأ يتسلل للإعلام الأجنبي بهذا القدر أو ذاك، وبذلك يُفسد الإعلام كما أفسد السياسة. ربنا يستر.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة