كاتب مهتم بالشؤون الاقتصادية العربية والعالمية، وباحث دكتوراه بقسم الاقتصاد والمالية العامة، بجامعة الزقازيق المصرية.
اقتصاديات 'الدِّين'.. هل الدول الملحدة هي الأنجح اقتصاديا؟
إن كنت قد درست العلوم الاقتصادية، أو لديك حب اطلاع في المجال الاقتصادي عمومًا، فحتمًا سيفاجئك ما آلت إليه ورقة هاريسون، وستزداد دهشتك حينما تعلم أنه ليس الوحيد في ذلك، وإنما هناك اقتصاديين كُثر يشاركونه ما كتب أيضًا. جاءت خلاصة بحث هاريسون ليدعم الرأي القائل بأن "اليد الخفية" التي كان يقصدها سميث لم تكن هي وصف للطريقة التي تعمل بها الأسواق الحرة لضبط العرض والطلب، وبالتالي تلبية الاحتياجات البشرية، وهي الفكرة التي يحتفل بها أنصار "السوق الحرة" باعتبارها اليد الخفية نفسها والتي تتجاوز تدخل الدولة، وهو بالمناسبة ما يتنافى مع ما ذكره سميث في أحد أعماله الرئيسية الأخرى وهي "نظرية المشاعر الأخلاقية"، فقال إن "سعادة الأفراد والمجتمع ككل تعتمد إلى حد كبير على تدخلات الدولة خارج عمل الأسواق". ليخلص تحقيق هاريسون إلى أن اليد الخفية لم تكن هي المصلحة الذاتية للأطراف في السوق كما تم الترويج لها خطئًا بعد ذلك، وإنما كانت "يد الله".
وفقًا لبحث في جامعة كامبريدج، فإن "الإلحاد" انتشر بشكل لافت في أعقاب نجاح الثورة الروسية عام 1917، حيث جلبت أصحاب التيار الأيديولوجي الشيوعي وهم الماركسيين اللينيين إلى سدة الحكم، ولأول مرة في التاريخ أصبح الإلحاد هو الأيديولوجية الرسمية للدولة. ومن ثم بدأت بوادر الصراع بين الإلحاد والدين وعلاقتهما بالاقتصاد في النشوء في تلك الحقبة. فبينما كان يفترض كلًا من ماركس وإنغلز أن الدين سيزول وتذبل ورقته من تلقاء نفسه بمجرد تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية إلى الأفضل، فإن البعض من تيار البلشفية كان يرى بضرورة "النضال العدائي ضد الدين".
مع مطلع الثلاثينيات، وأثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الحركة الإلحادية المناهضة للدين قد فقدت زخمها، حتى إن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية أنهى "رابطة الملحدين المسلحين" عام 1944، إلا أن التيار عاد في عام 1955 ليتم تعزيز "الإلحاد المسلح" في الجمهوريات من جديد، وانعكس أيضًا هذا الاتجاه في الكتلة الشرقية والصين في ذلك الوقت. ومع انهيار الشيوعية السوفيتية عام 1989 بانهيار الاتحاد نفسه، تراجع الإلحاد العلمي الماركسي، وفقد مكانته في النقاشات الفكرية باعتباره ضرورة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، ولكن ظلت أهميته ومكانته المركزية كبيرة في تاريخ الإلحاد في القرن العشرين.
الإلحاد والاقتصاد
يسود اعتقاد، له مريدينه الكثر بطبيعة الحال، أن العلاقة بين الإلحاد والازدهار الاقتصادي هي "علاقة طردية"، فيما يتعلق بكون الإلحاد متغير تابع يتأثر بأوقات الرخاء الاقتصادي، فهناك أدلة على أن أوقات الثروة والسلام كانت دائمًا مؤشرًا عكسيًا للمعتقد الديني، وكما يقول ثيودور في تدوينته المثيرة للجدل "التدهور الحتمي للإلحاد" فإنه "من النادر أن يعتقد الأغنياء البدناء بأنهم بحاجة إلى الله، كما أنهم يستاؤون بشدة من أية قيود إلهية تُفرض على أنماط حيواتهم المنحلة".
بناء على ذلك، ليس من المستغرب في نهاية أطول فترة من السلام والتوسع الاقتصادي في تاريخ الغرب وجود "سكان بدناء وأثرياء ومنحلين ومرضى لا يخشون الله"، وهو تعبير ثيودور النصي أيضًا، وتلك العلاقة قديمة قِدم عصر الاستكشاف في القرن السادس والسابع عشر، فالعالم الإنجليزي الشهير فرانسيس بيكون، المسيحي السياسي الذي عاش خلال تلك الفترة، وأول من عزز البحث القائم على التجارب، أرجع الإلحاد جزئيًا إلى أوقات الازدهار الاقتصادي، وقال بأن الإلحاد كان ناجمًا جزئيًا عن "تكرار الأوقات التي تعلمنا فيها وبخاصة خلال فترات السلام والازدهار؛ أن المتاعب والظروف الشاقة، تجعل عقول الرجال تميل إلى الدين".
على الجانب الآخر، يجادل البعض في أن الإلحاد هنا يعد متغير مستقل غير تابع، بمعنى أنه هو من يؤثر في الازدهار الاقتصادي من عدمه لا العكس، بدليل أن شعوب معظم الدول الفقيرة هي "شعوب دينية"، بينما لا يمكن للدين أن ينمو في مجتمع مزدهر اقتصاديًا بالفعل كدول العالم الأول.
تنطلق من تلك الفرضية دراسة قام بها الباحث الأميركي غريغوري سكوت بول عام 2009، تشير لأن "الدين هو الأكثر قدرة على الازدهار في المجتمعات التي تحتوي على خلل بشكل كبير"، وفق زعمه، وذلك بعد أن قام بإنشاء ما يسمى بـ"مقياس المجتمعات الناجحة"، حيث قام بمقارنة 25 مؤشرًا اجتماعيًا واقتصاديًا مقابل الإحصاءات المتعلقة بالمعتقدات والممارسات الدينية في 17 دولة متقدمة.
"قام العديد من الباحثين بتوجيه النقد لبول في مذكرتهم البحثية بعنوان "التدين والعلمانية والصحة الاجتماعية"، حيث تناولوا فيها مختلف القضايا النظرية والمنهجية في قياس وتحليل التدين والعلمانية وعلاقتهما بالتدابير القابلة للقياس الكمي للصحة الاجتماعية في البلاد المتقدمة التي تناولها بول في دراسته"
جمع بول بيانات عن كل شيء تقريبًا: معدلات القتل، وعدم المساواة في الدخل، ووفيات الرضع، وحمل المراهقات، وغيرها، ليجد أن المجتمعات التي حققت أفضل نتيجة في تلك المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية هي المجتمعات الأكثر علمانية والتي ينتشر بها الإلحاد بنسبة كبيرة. وأراد بول من الدراسة دحض الفكرة القائلة بأن "الدين عالمي وفطري للحالة الإنسانية"، وإثبات أن المجتمعات التي لا تؤمن بوجود الله ليس محكوما عليها بالفشل كما يعتقد بعض المحافظين الدينيين.
يفصل باول بأنه "ليس هناك حالة واحدة توجد فيها أمة ترتفع فيها درجة التدين وفي نفس الوقت تعتبر ناجحة للغاية اجتماعيًا"، وهو نفي مطلق ربما يختلف معه الكثيرون فيه تاريخيًا ومعلوماتيًا. مضيفًا أن "الدين متغير للغاية، ولذلك علينا أن نسأل لماذا هو أكثر شعبية في بعض الأحيان بينما ليس كذلك في أوقات أخرى؟"، ثم يجيب على تساؤله بشكل قاطع "شيء واحد نعلمه؛ أنه يكون شعبي للغاية في المجتمعات التي لديها ما يكفي من معدلات الخلل، بحيث يصبح الناس قلقين حول حياتهم اليومية، ولذلك فهم يبحثون عن آلهة للمساعدة في حياتهم اليومية".
كما تدعي دراسة بول بأن الإيمان بالله والمشاركة في الخدمات الدينية في تراجع خلال العقود الأخيرة في معظم دول العالم الأول الاقتصادي، ولكنهما ظلا مرتفعين في البلدان النامية، فبين عامي 1947 و2001 انخفض الاعتقاد بالله في السويد بنسبة 33.6%، و19.9% في أستراليا، و7.2% في كندا، وذلك وفقًا لاستقصاءات العلوم الاجتماعية التي أجراها عالم الاجتماع في جامعة هارفارد بيبا نوريس، والعالم السياسي في جامعة ميتشيغان رونالد إنغليهارت، بينما أشارت استطلاعات الرأي الأخيرة التي تمت في البلدان النامية إلى أن مستويات التدين تظل مرتفعة، فالدول العشر الأكثر تدينًا في مؤشر وين-غالوب الدولي للتدين والإلحاد عام 2012؛ تشير إلى أن دخل الأفراد في جميع تلك البلدان يقل عن 14.1 ألف دولار أميركي سنويًا.
في المقابل، هناك العديد من الدراسات التي ظهرت لتواجه دراسة بول الإحصائية، وبخاصة في جزئيتها القائلة بتراجع الدين في الغرب، وإن كان البعض يرى في جُل أبحاث بول أنها مثيرة للريبة على المستوى العلمي، فعادة يضع فرضيات لا يتم التحقق منها بشكل دقيق. لذا قام العديد من الباحثين بتوجيه النقد له مثل توماس ماش، وجيرسون مورينو-ريانو، ومارك سميث في مذكرتهم البحثية بعنوان "التدين والعلمانية والصحة الاجتماعية"، حيث تناولوا فيها مختلف القضايا النظرية والمنهجية في قياس وتحليل التدين والعلمانية وعلاقتهما بالتدابير القابلة للقياس الكمي للصحة الاجتماعية في البلاد المتقدمة التي تناولها بول في دراسته.
ليس الدين فقط
لم تقدم دراسة بول ومثيلاتها تفسيرًا لانخفاض الإنتاجية الاقتصادية التي صاحبت الشيوعية، والتي أدت لخراب مالي ومشاكل اقتصادية كبيرة، كما حدث في الاتحاد السوفيتي قديمًا، أو المشاكل المالية الهيكلية التي تعاني منها أوروبا العلمانية سياسيًا حاليًا، بينما تبرز للمدقق حزمة أسباب أخرى.
ساعد الكسل الواسع الانتشار في الاتحاد السوفياتي قبيل انهياره على وقوع البلاد في قبضة الفقر المدقع، ما عُرف بعد ذلك بظاهرة "الكسل المصاحب للإلحاد"، ووجدت دراسة أجريت في الاتحاد السوفياتي أن أكثر من 50% من قوة العمل السوفيتية اعترفوا بشرب الكحول أثناء العمل، ومن ثم خلصت إلى أن حالة الاقتصاد الكئيبة التي ظهر بها الاتحاد وأدت لانتشار الفقر والكسل ومن ثم انخفاض الإنتاجية الاقتصادية؛ كل ذلك يعود بالأساس إلى النظام الشيوعي اللاديني الذي "وأد الدافع الضروري للعمل".
في الوقت ذاته، كانت هناك مستويات مرتفعة من النمو الاقتصادي في الغرب بسبب أخلاقيات العمل البروتستانتية، فيقر مؤرخ جامعة هارفارد الملحد نيال فيرغسون بفضل أخلاقيات العمل البروتستانتية في دفع النمو الاقتصادي في الدول الغربية قائلًا "بمزيج من العمل الشاق والتدبير، استطاعت المجتمعات البروتستانتية في شمال وغرب المحيط الأطلسي تحقيق أسرع نمو اقتصادي في التاريخ"، كما يلفت فيرغسون النظر حول مفارقة تستحق التأمل، فرغم تراجع أخلاقيات العمل البروتستانتية في الغرب، إلا أنها ما زالت موجودة وتعمل بشكل جيد في آخر مكان يمكن توقعه وهو الصين.
فرغم وصف ماو للدين بشكل عام بأنه "سم"، ولذا حاولت الثورة الثقافية الصينية في الستينيات والسبعينيات استئصاله تمامًا(9)، إلا أن الوضع يبدو أنه قد تغير فيما بعد، حيث ظل الدين ينمو تحت الأرض إلى أن برز خلال العقدين الماضيين، والملاحظ أن النمو في الدين كان مصحوبًا بنمو اقتصادي سريع خلال العشرين عامًا الماضية، وقد شهدت المسيحية نموًا سريعًا في الصين في تلك الحقبة، ويعزو فيرغسون النمو الاقتصادي الأخير في الصين إلى "أخلاقيات العمل البروتستانتية كونها أكثر اندماجًا في المجتمع الصيني" على حد تعبيره.
أما عن الأزمة الاقتصادية الهيكلية في القارة العجوز، والتي تمثل خليطًا معقدًا من المشاكل الاقتصادية، حيث أزمة ديون سيادية مع أزمة مصرفية وأزمة نمو اقتصادي وفقدان للقدرة التنافسية، على عكس الصورة الظاهرة للقارة، فيبدو أن "الإلحاد" في نظر عدد لا بأس به من الاقتصاديين هو "المتهم الأول" أيضًا، فالأوروبيون الغربيون يعملون ساعات أقل من نظرائهم الأميركيين وفي الكثير من البلدان الأخرى. ومن ثم ظهرت الكتابات التي تفسر تلك الظاهرة.
على سبيل المثال، نشر نيال فيرغسون مقالًا عام 2004 في صحيفة التليغراف البريطانية بعنوان "الإلحاد الأخلاقي، أو لماذا لا يؤمن الأوروبيون بالعمل؟"(11)، وضح فيه فيرغسون التفاوت المتنامي في أنماط العمل بين ضفتي المحيط الأطلسي، فالأميركيون لديهم عطلات أقصر من الأوروبيين، ففي حين يتمتع العمال الألمان والإيطاليين والفرنسيين في المتوسط بحوالي 40 يومًا من العطلة سنويًا، فإن متوسط العطلات الأميركية لا تتجاوز الـ 14 يومًا في العام أيضًا، كما أنه بين عامي 1973 و1998 ارتفعت نسبة السكان الأميركيين العاملين من 41% إلى 49%، بينما في ألمانيا وفرنسا انخفضت النسبة إلى 44% و39% على التوالي.
ما تم رصده أيضًا هو ميل أوروبي مألوف للإضرابات العمالية، ففي الفترة بين عامي 1992 و2001 فقد الاقتصاد الإسباني إنتاجية 271 يومًا في المتوسط لكل ألف موظف نتيجة للإجراءات الصناعية، وبالنسبة للدانمارك وإيطاليا وفنلندا وإيرلندا وفرنسا فإن الأرقام تراوحت بين 80 إلى 120 يومًا، بينما كانت 50 يومًا فقط في أميركا، وربما الأمر الأكثر وضوحًا في اختلافات أنماط العمل بين الأوروبيين والأميركيين؛ هي تلك المتعلقة بساعات العمل، فوفقًا للأرقام الواردة من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عام 1999، فإن متوسط ساعات العمل الأميركية هي أقل برقم ضئيل من ألفين ساعة في العام، بينما في ألمانيا هي 1535 ساعة، أي أقل بنسبة 22% تقريبًا.
ويرى فيرغسون أنه بالرغم من وجود العديد من النظريات التي تفسر هذا الاختلاف، مثل التشريع الأوروبي أو المعدلات الهامشية للضرائب، إلا أنه يميل بشكل أكبر إلى تفسير آخر، وهو الذي ذكره ماكس فيبر في مقالته الشهيرة قبل قرن تقريبًا والمعنونة بـ"أخلاقيات العمل البروتستانتية، وروح الرأسمالية"، التي حددت الصلة بين "صعود البروتستانتية"، وما أسماه هو بـ"روح الرأسمالية".
ويقترح فيرغسون نسخة حديثة من نظرية فيبر وسماها بـ"أخلاق كسل الملحد، والروح الجماعية"، فيرى أن الاختلاف في أنماط العمل قد صاحبه "تباين مماثل في التدين"، فوفقًا لدراسة أجراها معهد غالوب لاستطلاعات الرأي عام 1999، بشأن الاتجاهات الدينية، فإن 48% من السكان الذين يعيشون في أوروبا الغربية تقريبًا لا يذهبون أبدًا إلى الكنيسة، بينما يقل الرقم قليلًا في أوروبا الشرقية حيث يصل إلى 44%، وفي هولندا وبريطانيا وألمانيا والسويد والدنمارك فإن أقل من واحد من بين كل عشرة أشخاص من السكان يذهب للكنيسة مرة واحدة في الشهر على الأقل.
على النقيض من ذلك في الولايات المتحدة، فمن النادر أن يتم وصف مجموعة من الأميركيين بأنهم "ملحدين"، بينما ما نسبته 15% من الأوروبيين ملحدين، ويخلص فيرغسون إلى أن هناك علاقة بين الارتفاع المتزامن في عدم الإيمان في أوروبا وبين تراجع أخلاقيات العمل التي ذكرها فيبر من قبل. وما يدعم رؤية فيرغسون هو أن البلدان الأوروبية التي قامت بإصلاحات بروتستانتية لمعالجة الخلل السابق، مثل ألمانيا، هي من أقوى وأفضل المناطق الأوروبية أداءً الآن، فالاقتصاد الألماني الذي لديه إرث ثقافي من أخلاقيات العمل البروتستانتية يعد أقوى الاقتصادات الأوروبية.
اقتصاديات الدين
يذهب الأمر إلى أبعد من مجرد الجدل الدائر حول علاقة الإلحاد بالتراجع الاقتصادي، أو تأثير الدين على الازدهار الاقتصادي، إلى الحديث عن سياقات تصل إلى "فضل الدين على الاقتصاد الحديث". ففي قاعة اجتماعات الرابطة الاقتصادية الأميركية، جلس بن فريدمان، الاقتصادي بجامعة هارفارد، وسط مناقشة في دائرة بين الاقتصاديين حول مدى ما يدين به الاقتصاد الحديث للفكر الديني. في النقاش، جادل فريدمان بأن مؤسس النظرية الاقتصادية الحديثة، آدم سميث، كان أكثر تأثرًا بالفكر الديني مما هو شائع، فيقول في ورقته القصيرة التي استند عليها حديثه أن هذا التأثير "على عمل سميث، وغيره من الاقتصاديين الأوائل الذين ينبع تفكيرهم في أمور ليست أخلاقية فحسب، وإنما دينية بالمعنى التقليدي، غير مفهوم بشكل عام. وهو يتناقض مع معظم التفسيرات الحالية لأصل الاقتصاد باعتباره انضباطًا فكريًا مستقلًا".
ويعرف عن سميث إسهاماته في وضع الأسس الاقتصادية لقضايا تقسيم العمل، والتخصص والتبادل التجاري، والمشاريع الحرة، وما إلى ذلك، ومع ذلك فهناك مساهمات لا تقل أهمية كان قد أشار إليها سميث حول العلاقة بين الاقتصاد والدين، وتعد اللبنة الأولى فيما سمي بعد ذلك بـ"اقتصاديات الدين".
تقبع آراء سميث حول العلاقة بين الدين والاقتصاد في الفصل الأول من الكتاب الخامس للجزء الثالث من مؤلفه الشهير "ثروة الأمم"، وهو ما جذب الاهتمام لأول مرة للبحث في علاقات الدين بالاقتصاد. وفضلًا عن تحقيق بيتر هاريسون الذي خلص إلى أن "اليد الخفية" التي كان يقصدها سميث كانت "يد الله"، يؤكد ذلك الأمر أيضًا الاقتصادي النمساوي الأميركي لودفيغ ميزس في أيقونته الشهيرة "العمل الإنساني" الصادر عام 1949. وكذا خرجت العديد من الأوراق البحثية التي تبحث في طبيعة لاهوتية آراء آدم سميث، وفلسفته الاجتماعية والاقتصادية القائمة على فكرة "تدخل الله في الطبيعة"، ما دفع العديد من الباحثين والمفكرين إلى اعتناق فكرة أن "اليد الخفية"، أحد أشهر المفاهيم الاقتصادية تاريخيًا، هي يد الله بالفعل.
الدين الأميركي
تبدو العلاقة بين الدين والتقدم الاقتصادي واضحة في العديد من الدراسات الحديثة أيضًا، فوفقًا لدراسة جديدة تقيس الإيمان من الناحية المالية، فإنه "إذا ما أصبحت المسيحية الأميركية بلدًا، فإنها سوف تحتل الاقتصاد رقم 15 بين أكبر اقتصادات العالم"(. كما أن الشركات والمؤسسات التي لديها صلة بالدين، فضلًا عن دور العبادة في الولايات المتحدة؛ تحقق المزيد من العائدات كل عام بحجم يزيد عن العائدات التي تحصل عليها عملاقا التكنولوجيا العالميان غوغل وأبل ومعهما عملاق التسوق أمازون مجتمعين، حيث تساهم المؤسسات ذات النسخة الدينية بنسبة 1.2 تريليون دولار سنويًا في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وذلك وفقًا لتقرير "المساهمات الاجتماعية والاقتصادية للدين في المجتمع الأميركي: دراسة تطبيقية".
يقول بريان غريم المحلل السابق في مركز بيو للبحوث، ورئيس مؤسسة الحرية الدينية والأعمال التجارية، والمشارك في إعداد هذا التقرير والمدافع عن الحرية الدينية كدافع للنمو الاقتصادي، أن "هذا الجهد الأول من نوعه -أي التقرير- يعرض الفوائد الإيجابية للدين في الولايات المتحدة، في الوقت الذي يسود فيه اعتقاد في كثير من الأحيان بآثاره السلبية والتي تأتي عن طريق تداول الأخبار، مثل الاعتداءات الجنسية لرجال الدين أو العنف الديني".
لطالما ظلت المناقشات دائرة بين المفكرين الاقتصاديين حول الأسباب الحقيقية المسببة لنمو الاقتصادات المختلفة، وربما استقر على أن الأسباب الرئيسة معظمها يكمن في مستويات التعليم، والانفتاح على التجارة، والموارد الطبيعية واستغلالها، واستقرار النظم السياسية وكفاءتها، إلا أن باحثين في جامعة هارفارد استنتجوا مؤخرًا سببًا آخر يدفع النمو الاقتصادي، ويبدو غريبًا وغير مألوف، وهو "الخوف من عقاب الله أو الجحيم".
قام الباحثون بفحص وتحليل بيانات يعود تاريخها إلى 40 عامًا مضت في عشرات البلدان، وذلك في محاولة لاستكشاف الأثر الاقتصادي للمعتقدات أو الممارسات الدينية، ووجدوا أن الدين له تأثير ملموس على الاقتصادات النامية، والتأثير الأقوى يتعلق بمدى قوة الناس في الاعتقاد بالجحيم أو عذاب الله بعد الموت. ويبدي الباحثون دهشتهم من الوصول لتلك النتيجة، فالجحيم أو العذاب الذي يؤثر في النمو الاقتصادي؛ لا يمكن إثبات وجوده وغير قابل للقياس.
ولم يقف الأمر عند باحثي جامعة هارفارد في تأكيد تأثير الدين على النمو الاقتصادي، ففي السنوات الأخيرة أيضًا قدم الاقتصاديون الإيطاليون نتائجًا تفيد بأن الدين يمكن أن يعزز الناتج المحلي الإجمالي من خلال زيادة الثقة داخل المجتمع، كما أظهر باحثون في الولايات المتحدة أن الدين "يقلل من الفساد، ويزيد من احترام القانون بطرق تعزز النمو الاقتصادي العام"، كما وثق العديد من الباحثين كيف استعرض التجار خلفياتهم الدينية لزيادة الثقة بين بعضهم البعض. كما قام روبرت بارو، الخبير الاقتصادي المعروف في جامعة هارفارد، وزوجته راشيل ماكليري، وهي باحثة في مركز توبمان بجامعة هارفارد أيضًا، بجمع بيانات من 59 بلدًا يدين غالبية سكانها بواحدة من الديانات الرئيسية الأربع هي الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية، وذلك في الفترة من 1981 إلى 2000، وقاموا بقياس أشياء مثل "مستويات الإيمان بالله، ومعتقدات الآخرة، وإقامة الشعائر الدينية"، ووضعوا كل تلك البيانات في نماذج إحصائية، لتظهر النتائج وجود علاقة قوية بين النمو الاقتصادي وبعض التحولات في المعتقدات، وفي ضوء ذلك تقول ماكليري إنها ترى أن الدين يغير السلوك الاقتصادي للناس.
الإلحاد عربيًا
تتواجد ظاهرة الإلحاد بشكل لافت في العالم العربي مقارنة بالسابق، وبخاصة بين فئة الشباب في المرحلة العمرية ما بين العشرين والثلاثين تحديدًا، ورغم صعوبة تقدير حجمها بشكل دقيق، إذ لا توجد إحصائية مستقلة بشأنها، إلا أنه لا يمكن لأحد إنكار وجود الظاهرة. ولا يمكن الاستناد لسبب واحد أدى إلى إلحاد البعض، فربما توجد مجموعة من العوامل المعقدة والمتداخلة فيما بينها، تقود بعض الشباب تحديدًا إلى الإلحاد. إلا أن ما يهمنا هنا، وما لا يمكن إهماله بالطبيعة هو "الجانب الاقتصادي" في تحليل تلك الظاهرة.
فمحاولة مقارنة الواقع في البلاد العربية بمستويات التقدم الاقتصادي في الغرب، ودرجة الرفاه والمثالية الشديدة التي تبدو عليها الأوضاع هناك، ربما تقود الأفراد للإلحاد أو على الأقل لوضع الدين والتقدم الاقتصادي في علاقة عكسية، للصلة السهلة بين التدين والتخلف الاقتصادي كما يعتقد عدد لا بأس به، بخلاف العلمانية الغربية المتقدمة. إلا أنه في نهاية المطاف يصعب الجزم بهذا الربط ووضعه في سياق ما يتعلق بأسباب اتجاه بعض الشباب العربي للإلحاد بسبب قلة الدراسات لاسيما التطبيقية منها، والتي تسمح بتناول الظاهرة بالتحليل بشكل أعمق.
وفقًا لدراسة تمت من قبل استطلاع وين غالوب في عام 2015، فإن الملحدين يشكلون حوالي 11% من سكان العالم، وهم أقلية صغيرة في الشرق الأوسط وأفريقيا(. وعلى الرغم من نمو عدد الملحدين عالميًا في القرن العشرين، إلا أن تلك الزيادة لم تسر بمعدلاتها الطبيعية خلال الأعوام القليلة الماضية، والتي تشير إلى نتيجة ربما لم تكن متوقعة أو صادمة لمن يدعي بغلبة الإلحاد على المستوى العالمي بحلول عام 2038، وهي أن أعداد الملحدين في العالم قد يتناقص. فقد وجد الاستطلاع الذي أجراه معهد وين غالوب أيضًا عام 2012 أن 13% من سكان العالم ملحدون، وبحلول العام 2015 انخفض عدد الملحدين بمقدار نقطتين مئويتين.
وربما تثير تلك الإحصائية تساؤلًا منطقيًا؛ إذ كيف يتراجع الإلحاد مع هذا التقدم الاقتصادي والاجتماعي غير المسبوق الذي وصل إليه العالم الآن؟ خاصة مع ربط اللادين العام والشعبوي بشكل ما بالتقدم الاقتصادي، إلا أنه ربما تتكشف خلال الأعوام القادمة بشكل أكبر درجة التفاعل بين الإلحاد والدين وتأثيرهما على الوضع الاقتصادي.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة