متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
عندما ينفصل العمل عن الإيمان
يدرك المؤمن أنَّ ما وضعه اللّه من أقدار وأحكام هو الأجدى والأكمل لتحقيق الخير ومقاومة الشَّرِّ.. فيتقبَّله وينشرح صدره له، ويمتلئ قلبه سكينة تلغي من كيانه التَّردُّد والتَّكاسل، فيُقبل على التَّكاليف مهما صعبت، بل تراه يستمدُّ سعادته من إتقان أدائها طلباً لمرضاة خالقه. ولا يتوانى في الإبداع والابتكار.
عمل مسلمو القرون الأولى بعد البعثة، وتحمَّلوا الإيذاء وضنك الحياة، وفقهوا حقَّ الفقه قوله تعالى: {ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ}.
وكان إيمانهم اعتقاداً وعملاً وإخلاصاً، فأنتج أثراً في حياتهم لا مثيل له، كان طاقة إيجابيَّة استقرَّت في قلوبهم فأثمرت أعمالاً صالحة متميِّزة..
تعانق الإيمان مع أعمالهم، وهذا مقتضى الإسلام، فحقَّقوا بمثل هذا التَّلازم الفوز.
وقد كان الصَّحابة عليهم رضوان اللّه نموذجاً في الثَّبات على بذل الجهد والكدِّ والسَّعي إلى الإنتاج والإبداع، فكان عثمان بن عفَّان تاجراً وعمرو بن العاص جزَّاراً، وعمل سلمان بالخوص حين كان أمير المدائن، وهكذا كان سائر الصَّحابة... فالعامل المؤمن يتعبَّد بعمله ويرقب اللّه فيه ويرجو الثَّواب، فيحرص على الأمانة والإخلاص عندما يسعى إلى الكسب المادِّيِّ، فينشرح قلبه وهو يكدح، ويصبر على التَّعب ويعيش استقراراً ويقيناً فيتضاعف إنتاجه، وتتحوَّل في مشاعره المعاناة إلى لذَّة، والضَّغط إلى راحة معنويَّة.. هذا فضلاً على أنَّ الإيمان يحفظ طاقاته من أن تبدَّد في غير طائل أو تصرف في السُّوء تجاه نفسه أو غيره.. ضغوط عمل المؤمن تؤثِّر فيه إيجابيّاً؛ فتستثير همَّته، وتزيد في قدرته على العمل وحسن الأداء والإنتاج، وتجعله سعيداً بعمله.
آصرة الإيمان لا يعتريها الوهن، فأين المجتمعات العربيَّة من كلِّ هذا اليوم، ومقاهيها تغصُّ بالشَّباب؟! لا بدَّ من مراجعة أنفسنا والعودة إلى عمق الدِّين، فقد جعل اللّه في كتابه الإيمان والعمل في كفَّة، والضَّلال في الكفَّة الأخرى:{ﯡﯢﯣ ﯤﯥﯦ ﯧ ﯨﯩﯪ}.
والآيات الحاثَّة على العمل والجدِّ والكدِّ كثيرة، ومنها قوله تعالى: {ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ}، وما الكدح إلَّا الثَّبات على بذل الجهد. وفي الحديث الشّريف: «من أمسى كالّاً من عَمَلِ يده أمسى مغفوراً له» (مجمع الزّوائد).
ماذا عن العمل و ضغوطه في عالمنا المعاصر؟!
قطع الإنسان المعاصر الخيط بين العمل والإيمان، وأوقف هدف العمل عند تلبية الاحتياجات المادّيَّة فحسب.. فلو توفَّرت فرضاً لديه هذه الاحتياجات لاختار الجلوس في البيت عن العمل!.. وهذا حال الكثير من المتمتِّعين بمنحة البطالة في البلاد الغربيَّة الّذين يعزفون عن العمل معوّلين عليها، في حين أنَّ الدَّولة شرّعتها لتساعدهم في فترة البحث عن العمل.
أصبح الفرد اليوم كالآلة، وغاب عن وعيه أنَّه مورد بشريّ.. تعلَّق بالدُّنيا أكثر وجعلها هدفاً له، وما فتئت حياته تزداد تعقيداً، وتضاعفت مطالبه ورغباته، فازدادت الضُّغوط الواقعة عليه، وليس له أن يتوقَّف عن مجاراة واقع الحياة حتَّى لا يفوته الرَّكب، وعليه أن يسارع لنيل الرَّغبات. وضاع التَّوازن بين هدف تحقيق مطالب الواقع وقدراته الشَّخصيَّة.
أفرزت الحضارة المادِّيَّة المعاصرة بما فيها من رخاءٍ وقسوةٍ اضطرابات متنوِّعة في حياة النَّاس وانحرافات، تحت ضغط المتطلَّبات الملحّة، وامتلأت حياتهم منغِّصات.. سرى الغلاء المعيشي في المجتمعات.. وانهمك الجميع في الجري وراء توفير ما يلبِّي الشَّهوة.. قد يطلب الرَّئيس في العمل أعمالاً عديدة في الوقت نفسه، وليس للعامل إلَّا أن ينحني ولو كان الأمر يفوق الطَّاقة.. يقضي الموظَّف أغلب وقته في العمل، وقد يُطلَب منه عمل خارج وقت الدَّوام الرَّسميِّ وفي أثناء عطلته.. وترتبك بهذا حياته الأسريَّة وتتوتَّر ويزداد ضغطاً على ضغط..
وتنعكس كلّ هذه الأوضاع على السُّلوك، فترى الفرد ينفعل لأتفه الأسباب، وكثيراً ما يتولَّاه الشُّرود أو يجنح إلى التَّدخين وشرب الخمر وتعاطي المخدِّرات.. وتنوَّعت الأمراض الجسميَّة والنَّفسيَّة وظهر في الغرب داء «بيرون أوت»..
أمَّا إذا حصل الموظَّف على إجازته السَّنويَّة، فعوض أن يرتاح ليتمكَّن من تجديد نشاطه، تراه يفكِّر في متطلَّباتها وكيف يقضِّيها.. أصبحت العطلة في حدِّ ذاتها همّاً من الهموم التي تشغل الفرد.. تجد من يقتني تذاكر سفر، يدفع ثمنها بالتَّقسيط أو يقترض مالاً من المصرف، ليسكن في فندق أيَّاماً قليلة، يأكل فيه ويشرب وينام ليس إلَّا؛ ليعود بعد عطلته يحمل هموم تسديد الدَّين؟!.. بل أصبح العمل من أجل العطلة هدفاً، ترى الفرد يكدح سنة كاملة من أجل أن يوفِّر متطلَّباتها.. عسى أن يسعد أيَّاماً معدودة.. ولكن أين هو من السَّعادة!
لن تفلح حضارة تفصل مفهوم العمل عن الإيمان، ولا تعتبر إلَّا الجوانب المادِّيَّة من حياة الإنسان.. ولن تجلب له السَّعادة مهما أغدقت عليه من رخاء.. أمَا آن الأوان لنستيقظ ونجدِّد العهد مع اللّه ونصالح بين إيماننا وأعمالنا..!
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة