هستيريا عهد التميمي
كتب بواسطة فراس أبو هلال
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1308 مشاهدة
حالة من "الهستيريا" تشهدها وسائل الإعلام العربية والفلسطينية، ووسائل التواصل الاجتماعي، اسمها "عهد التميمي". تلك الفتاة الفلسطينية التي ظهرت صورتها لأول مرة وهي طفلة تدافع "بطفولية" عن أمها التي كانت تتعرض للاعتقال على أيدي جنود الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، حيث صفعت الطفلة التي لم تكن تدرك آنذاك معنى "الخوف" كما يدركه الكبار أحد الجنود الذين جاءوا مدججين بالسلاح لاعتقال والدتها.
انتشر الفيديو في ذلك الوقت انتشارا كبيرا، وشهد جدلا كبيرا أيضا، ولكنه للحقيقة لم يصل للدرجة المرضية التي باتت تشكل "هستيريا" بمعنى الكلمة بعد اعتقال التميمي ووالدتها في ديسمبر الماضي، على خلفية مناوشتها لجنود الاحتلال أثناء اقتحامهم لقريتها "النبي صالح" في ذلك الوقت.
لماذا عهد التميمي دون غيرها؟
في بداية الجدل حول قصة عهد، ظهر التساؤل "المشروع" إلى حد ما: لماذا حظيت عهد التميمي دون غيرها من المعتقلات بكل هذا الاهتمام الإعلامي العالمي والعربي؟
ثمة تفسيرات "إعلامية" تحليلية يمكن أن تجيب على هذا التساؤل. أولها أن الإعلام يلاحق "القصص" أكثر من الأخبار المجردة، واعتقال عهد التميمي صار "قصة" بعد أن ربط بظهورها الأول طفلة صغيرة تصفع جنديا، وبهذا يصبح الخبر المجرد الذي هو اعتقال عهد "قصة" لها ما سبقها من سلسلة أحداث، ومن الطبيعي أن يركز الإعلام على "القصة" كونها تشد القارئ أو المتابع ليعرف مصير "البطلة" التي بدأت شخصيتها في الحكاية طفلة وصارت الآن فتاة في المعتقل.
ثاني التفسيرات يكمن بوجود "صورة"، والإعلام بطبيعة الحال "يعشق" الصورة لأنها تعطي للخبر بعدا آخر غير "صف" الكلام العادي الذي يبعث مللا لدى المتابعين. والصورة هنا ليست صورة اعتقال التميمي، فالمعتقلون تظهر صورهم يوميا، ولكن المميز في قصتها أن الصورة المتشكلة في ذهن القارئ عنها ليست صورة اعتقالها بل صورتها وهي تمثل نوعا من التحدي "الطفولي" لبندقية الجندي عندما كانت طفلة.
في تاريخ الإعلام والأخبار هناك "صور" كثيرة صنعت أجندة الإعلام، ولولا وجود هذه الصور لما حظيت الأحداث المرافقة لها بتغطية كبيرة كما حدث بسبب وجود هذه الصور. ولن نعود كثيرا بالتاريخ لذكر بعض الأمثلة، ولكننا نكتفي بصور اكتسبت متابعة عالمية كبيرة خلال السنوات الماضية.
أحد هذه الأمثلة القريبة صورة الطفل الكردي "إيلان" الذي غرق أثناء محاولة عائلته الهجرة عبر البحر، وصدف أن التقط مصور صورة لجثة الطفل بملابسه الجميلة وتعابيره المؤثرة بعد أن رمته الأمواج على الشاطئ، والسؤال هو: كم طفلا تعرض لنفس المصير الذي تعرض له إيلان منذ بداية الثورة السورية؟ بالتأكيد هم كثيرون ولكن لا أحد يذكر أسماءهم ولا أشكال وجوههم، لأنهم لم "يحظوا" بلقطة كاميرا "تؤرخ" موتهم وبالتالي لم تحظ قصصهم بأي تغطية إعلامية.
صورة الطفل عمران الذي ظهر في سيارة إسعاف معفر الوجه مرعوبا بعد قصف بيته في حلب هي مثال سوري آخر. كان يمكن لقصة عمران أن تمر كما مرت عشرات آلاف القصص الشبيهة في سوريا الجريحة، ولكن لقطة الكاميرا جعلته عنوانا لأبرز الصحف والفضائيات العالمية لأسابيع، مع أن قصته لا تختلف عن نظرائه الذين لم "تخلد" آلامهم الكاميرا.
وبما أن الحديث عن قصة فلسطينية هنا، فإن التفسير الوحيد لتخليد قصة محمد الدرة مثلا هو أن قتله بيد مجرم حرب من جنود الاحتلال "صدف" وأن وثق بصورة لا يمكن للأجيال أن تنساها لعشرات السنوات، بينما من المؤكد أن كثيرين تعرضوا للقتل برصاص جنود الاحتلال في أحضان آبائهم، أو فوق "جثث" أبنائهم، ولكن لا أحد يعرفهم أو يذكرهم، فهم مجرد أخبار وأسماء لم يكونوا في "كادر" مصور بارع يسجل قصة موتهم!
وبالعودة إلى عهد التميمي، فإن هناك عوامل أخرى ساعدت في ترميز قصتها في الإعلام العالمي، مثل أنها فتاة وهو أمر يلعب دورا في التغطيات الإعلامية، كما يمكن أن يضاف هنا ما ذكرته والدتها من أن اهتمام الإعلام الغربي بها نابع من كونها "تشبههم"، فهي "شقراء" مثلهم، وإذا صح هذا التفسير فإنه يعتبر عنصرية كما قالت والدة الفتاة -محقة- في تصريحاتها الأخيرة.
اهتموا بها لأنها تشبههم؟
لم تكن والدة عهد وحيدة في تفسير الاهتمام بابنتها في الإعلام العالمي كونها "شقراء"، وزاد عليها البعض بالقول إن الاهتمام نابع من كونها "غير محجبة" أو "غير إسلامية"، والحقيقة أن لهذا التفسير جذورا ونماذج تعطيه بعض المشروعية. لنأخذ مثلا المتابعة الإعلامية العالمية للاعتقالات في مصر؛ سنجد بالتأكيد أن الاهتمام الإعلامي بالمعتقلين الإسلاميين هو أقل بكثير من الاهتمام بالمعتقلين الليبراليين، حيث يحظى معتقل واحد من ليبراليي مصر بتغطية إعلامية تفوق التغطية لاعتقال عشرات الآلاف من الإسلاميين الذين لا يعرف أحد أسماءهم، وهذه حقيقة لا تخطئها العين المتابعة للإعلام الغربي.
ولكن الإقرار بهذه الحقيقة ليس هو المهم، فمن السذاجة أن يتوقع الإسلاميون "العدالة" في الاهتمام بهم من الإعلام الليبرالي العالمي، ولذلك فإن المهم هو أن يشتغل الإسلاميون أنفسهم على صناعة رموزهم، وعلى تحويل معتقليهم من مجرد أرقام إلى أسماء وصور وروح، وأن يصبح كل منهم قصة، وأن تصبح عائلة كل واحد منهم حكاية.
وبدلا من الاشتغال بلعن الإعلام العالمي فإن المطلوب منهم هو صناعة إعلامهم، وبدلا من التقليل من رمزية وحق شركائهم في النضال من التيارات الأخرى بالظهور الإعلامي، فإن المطلوب منهم هو "خدمة" قضية معتقليهم وجعلها على أجندة الإعلام، ففي نهاية الأمر كل معتقل هو رمز، وكل مظلوم هو صاحب حق.
جعلوها عميلة!!
على أهمية النقاش الدائر حول أسباب اهتمام الإعلام بعهد التميمي دون غيرها، إلا أن بعدا أكثر أهمية بدأ يظهر في الأيام الأخيرة، وهو التلميح أو التصريح بأن الاحتلال هو من يعمل على "ترميز" عهد التميمي، وأنه يريد أن يصنع منها رمزا، ويريد أن يروج من خلال قصتها لادعاءاته حول "أخلاقية" جنوده وسجونه.
وللأسف، فإن العرب هم الوحيدون تقريبا الذين فسروا قصة اعتقال عهد بهذا التفسير، بل إنهم هم الوحيدون الذين "تبرعوا" للترويج لادعاءات الاحتلال بأنه "أكثر" أخلاقية من الأنظمة العربية، فيما لم يكتب أي موقع أو صحيفة عالمية محترمة أي تقرير أو تحليل بهذا الاتجاه، بل كان التركيز على الاعتقال وعلى معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال في التغطيات الإعلامية العالمية. وبهذا أصبح المتخوفون من استغلال الاحتلال لقصة عهد هم المنفذين فعليا لما يريد أن يروجه!
نذكر في هذا الإطار قصة مروان البرغوثي، الذي يروج الكثيرون لنظرية كونه هو الآخر "رمزا" من صناعة الاحتلال وأنه يعد ليوم ما. وعلى الرغم من اعتقال الرجل لسنوات طويلة ورفض الاحتلال الإفراج عنه بطلب من محمود عباس، أو في صفقة "وفاء الأحرار" التي عقدتها حماس مقابل الإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شاليط، إلا أن الكثيرين لا يزالون يؤمنون بأن الرجل يصنع على "عين" الاحتلال، دون أن يخبرونا لأي يوم يعد مروان البرغوثي بعد هذه السنوات من السجن؟ وهل ينتظر الاحتلال موته في الأسر قبل أن "يخرجه" ليومه الموعود؟
إن مجرد اعتقال الاحتلال لأي فلسطيني هو جريمة، وليس مطلوبا من الفلسطيني أن يموت في السجن حتى يثبت هذه الجريمة، وليس مطلوبا منه أن يخرج من السجن إلى القبر حتى يثبت أنه ليس عميلا للاحتلال، وبالتأكيد فإن تعامل الاحتلال مع المعتقلين يختلف حسب "أهميتهم" وحسب خطورة اتهاماتهم من وجهة نظر المحاكم العسكرية، وهذا هو التفسير الوحيد لعدم تعرض عهد التميمي للتنكيل الذي يتعرض له معتقلون آخرون، وهي بالتأكيد ليست الوحيدة التي لم تتعرض لأذى كبير في المعتقل.
يمكن لقضية عهد التميمي وكل تفاصيل اعتقالها أن تفسر إذن بتفسيرات تآمرية، ولكن تحليل المظاهر السياسية يتطلب تحليلا أكثر عمقا من التسليم بنظرية المؤامرة، التي وصفها المفكر الكبير الراحل عبد الوهاب المسيري بأنها نظرية من لا يريدون أن يحللوا الظواهر بعمق، ويكتفون بدلا من ذلك بالتحليل السطحي القائم على قراءة التاريخ باعتباره مؤامرة.
المصدر : عربي 21
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة