القوامة.. بين النصّ الشرعي والموروث التقليدي
كتب بواسطة د. سيرين الصعيدي
التاريخ:
فى : ليسكن إليها
1843 مشاهدة
قيام أية مؤسسة يستدعي وجود وظائف بها، ومراكز، ومسؤول أعلى يديرها ويرجع إليه في نهاية الأمر؛ لتسهيل الأمور فيها وإمضائها، وحتى تمضي أمور هذه المؤسسة بسلاسة، لا بدّ من قيام كل فرد في هذه المؤسسة بدوره بإتقان دون أن يتعدى على غيره؛ لأنّ مسؤوليته منوطة بما عهد إليه من وظائف ومهمات.
وهكذا الأسرة، هي مؤسسة يتعدد بها الأفراد، وكلٌ له مجالاته ووظائفه، وفقاً للخصائص التي زوده وأهّلَه الله بها ، فإذا قام كل من فيها بدوره الذي أهّلَه الله إليه سارت أمورها على خير حال، أما إذا سخط الفرد من وظيفته، واستثقلت نفسه دوره ومركزه، كانت كما السفينة في وجه الأعاصير، لذا كان لا بد أن يكون لها ربان ماهر يرجع إليه في نهاية الأمر؛ لإدارة الدفة وفق ما منحه الله من امتيازات فطر عليها.
والقوامة من الأمور التي ما تلبث أن تثار وتستخدم كقضية نزاع وأيقونة يعزف عليها لحن الظلم، الذي بسببه تعاني المرأة في مجتمعاتنا، وحجة على انتقاص قدرها ومكانتها وإنسانيتها، بل ويتعدى الأمر تهويلاً؛ لأن تُصوَّر على أنها قيد بُليت به المرأة، ولا فكاك لها منه، إذ هو قيد الذل والعبودية الذي فرض عليها، لا لشيء، وإنما قدرها أنها أنثى وحظه أنه ذكر.
والذي يريد الحق والحقيقة هي ضالته، لو كلف نفسه ثلث الوقت الذي ينفقه على سماع وقراءة أولئك الذين يجدون في قوامة الرجل على المرأة امتهاناً لها، وسيفاً مسلطاً على رقبتها، لو أنه كلف نفسه ثلث هذا الوقت لبحث حقيقة الأمر من مصادره الأصلية، لكفى نفسه وغيره الوقوع في هذا التشويه الذي يراد عن قصد وتضليل نشره وبثه في المجتمعات، أدلتهم على ذلك واهية؛ لأنهم لا يعتمدون على فهم ما جاء به نص شرعي، ولا مذهب فقهي إنما أهواء نفس تشوهت فطرتها، وجعلت المعركة بين الرجل والمرأة سجالاً كأعداء في ساح الوغى، وكأنهم ما خُلقوا من نفس واحدة، متساوين بالكرامة والإنسانية والجزاء، وإن اختلفوا في الوظيفة والوسائل التي زودوا بها من أجل تحقيق الغاية التي من أجلها وُجدوا.
فالقوامة في حقيقتها التي أرادها الله إنما هي تكليف للرجل وتشريف للمرأة؛ إذ إن مفهوم القوامة في معاجم اللغة العربية وردت بأنها القيام على الأمر والمال، وقام على أهله تولى أمرهم وقام بنفقاتهم، والقيّم السيد وسائس الأمر، وقيم المرأة زوجها؛ لأنه يقوم بأمرها وما تحتاج إليه (لسان العرب)، وذهب العلماء في تفسير هذه الآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [سورة النساء، آية:34] أي أن من شأنهم القيام على النساء بالحماية والرعاية والولاية، وذلك لأسباب عدة، منها ما يفضل به الرجال على النساء في أصل الخلقة، فأعطاهم من القوة والحول ما يفوق قوة النساء، وبما يلزم الرجل من الإنفاق على زوجه من أموال (الجامع لأحكام القرآن – القرطبي، تفسير المنار لمحمد رشيد رضا).
والأمر إذا نظرنا إليه بعين الحقيقة مجردين من الأهواء والشبهات، نجده موافقاً لطبائعنا التي فطرنا عليها، بل إننا نمارسه بحياتنا من دون أي تعقيد، فأي مؤسسة لا بدّ لها من قيّم يترأسها ويباشر أمورها، وحتى لو انطلقنا في نزهة أو رحلة مع الخلّان والأصحاب، وجدت المجموعة تنتخب من يترأس سير الرحلة لجملة امتيازات وخصائص يمتلكها، وتمضي الرحلة في جو من الألفة والمحبة دون أي تعقيد، حتى إذا وصلنا لقوامة الرجل على زوجه بدأت المشاكل بلا حد لها، وذلك إنما يرجع في نظري لأمور عدة:
إذا نظرنا إلى موضوع القوامة بعين الحقيقة مجردين من الأهواء والشبهات، نجده موافقاً لطبائعنا التي فطرنا عليها، بل إننا نمارسه بحياتنا من دون أي تعقيد
1. التربية الخاطئة التي يمارسها أولياء الأمور في حق أبنائهم في ترسيخ مفهوم القوامة في أذهانهم وأفاهمهم على أنها تفضيل لكل ذكر على كل أنثى، فهي تفضيل جنس على جنس، وهذا الإشكال إنما يُدفع بالرجوع لتفسير الآيات الكريمة؛ إذ إن القوامة حكم خاص بالأزواج، فالرجل قوّام على زوجته فقط، وقوامة الزوج مرتبطة بالنفقة، تسقط عن المرأة، فمتى عجز عن نفقتها لم يكن قوّاماً عليها، وكان لها فسخ العقد (الجامع لأحكام القرآن- القرطبي)، فليس إذن كل رجل قوام على كل امرأة، فدور الأب مثلاً والأخ إنما دورهم ولاية لا قوامة، وهناك فرق بين القوامة والولاية.
2. أنّ مصادر معرفتنا لمفهوم القوامة مجتزأة من أنماط وعادات الناس، فموروث الكثير منا -لا سيما في هذه الأمور- إنما هو عادات الآباء والأجداد، والناس في بعدهم عن الدين وتطبيقهم لشرع الله كما أراد الله هو الذي تسبب بالخلل في هذه المسألة، فنجد أننا نهاجم القوامة على جهلنا بها، بناء على ممارسات ناتجة عن فهم خاطئ ومشوّه لها، فنتخذ أفعال الناس حجة، فندين ونستنكر بناء على ظلم ذاك وتعنت هذا في قوامته، وعلاج الأمر أنّ عادات الناس وتصرفاتهم ليست هي مرجعنا وإنما مرجعنا نصوص الشرع وتفسير العلماء والفقهاء الثقات لها، لا التصرفات الشاذة من البشر، أياً كان هذا البشر أو المنصب الذي يمثله.
إن مصادر معرفتنا لمفهوم القوامة مجتزأة من أنماط وعادات الناس، فموروث الكثير منا -لا سيما في هذه الأمور- إنما هو عادات الآباء والأجداد
3. القوامة تقوم على حقوق وواجبات، غير أن البشر من طبيعتهم يركزون على حقوقهم ويتناسون ويتجاهلون ما كلفوا به من واجبات، ولو قام كل منا بواجباته وأداها كما يحب أن تؤدى له حقوقه لحسم الخلاف.
4. أنه من الظلم لكل من الزوج والزوجة الاستعلاء على القوامة كما أرادها الله؛ لأنّ الرجل مطالب بالذود والحماية والرعاية والقيام بشؤون المرأة، فأمر طبيعي فطري أن تكون له القوامة، وبالمقابل لو كلفنا المرأة بالقوامة لكان من الظلم لها بتكليفها القوامة فوق ما كُلفت به من المهام الخطيرة التي أوكلت لها، وعُهدت إليها، من حمل وإنجاب، ومسؤولية البيت، وتربية الأبناء، وهذه من أجلِّ المسؤوليات وأخطرها بل وأعظمها.
وانطلاقاً من قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة، آية:50] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } [سورة الأحزاب، آية:36]، فإن الإشكال يزول ويُدفع خطره في أن يسلم المرء أمره لله تسليماً قائماً على الرضا؛ لأنه يعلم أن الذي خلقه أعلم وأرحم به من نفسه، وحتى يأتي الرضا، علينا أن نعود لفهم ديننا من مصادره، لا من إشاعات ومغالطات وسلوكيات لا تمت للدين بأية صلة، وعلى أولياء الأمر من آباء وأمهات ووعاظ وأئمة، كل حسب مكانه، أن يرسخوا ويوضحوا مفهوم القوامة كما أرادها الشرع، وقدوتهم في ذلك النبي الرحمة المهداة للعالمين.
وعلى المرأة أن تعود لفهم وممارسة دورها ومكانتها العظيمة، ورسالتها السامية في المجتمع غير منقوصة، ولا مذبذبة الشخصية، ثابتة الفكر والفؤاد على مبادئ دينها، لا أن تكون ريشة في مهب دعوات الجاهلية، واعية للمكيدة التي تحاك لها تحت جنح الظلام؛ لإخراجها من نور الهداية إلى ظلام جاهليتهم، ومن مأمنها إلى ابتذالهم، ولتعلم المرأة أنّ المجتمع لن يعطيها حقها ما دامت هي عنه غافلة، وأن تدرك أن الذي خلقها ما كان ليظلمها، وجل شأنه يقول في محكم كتابه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [سورة آل عمران، آية:195]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما النساء شقائق الرجال) (رواه أبو داود).
على المرأة أن لا تكون ريشة في مهب دعوات الجاهلية، واعية للمكيدة التي تحاك لها تحت جنح الظلام؛ لإخراجها من نور الهداية إلى ظلام جاهليتهم
كما أنّ التفضيل ما كان في يوم من الأيام تفضيل جنس على جنس، أو رجل على امرأة، إنما التقوى هو ميزان التفاضل بين الناس جميعاً عند الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات، آية:13].
لذا على كل منا أن يركز على الغاية التي من أجلها خلق، ويؤدي ما كُلّف به على أكمل وجه؛ لأنه سيحاسب على ما قدم، ولن يحاسب على جنسه ذكراً كان أم أنثى، ولا على لونه، فلا تشغلنا الوسائل عن الغايات، ولنحقق العبودية لله في أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا وفق ما كلفنا الله به، فلا نُكلف أنفسنا ما لم نطالب به، ولنحرص على ألا نكون إمعة تقلد الغرب، حتى في سبل هلاكها، فلا نكون مجرد أبواق لدعوات ما صدحت إلا لتمزيق روابطنا، وتهديم سكن بيوتنا وأسرنا، وليعلم كل فرد في هذا المجتمع، ويربي من هم تحت ولايته على أنّ القوامة ليست من باب الظلم والاستبداد للمرأة، بل هي رفعة وصون وتشريف لها، ولا تتعارض القوامة مع الشخصية المستقلة للمرأة؛ إذ هي بعيدة كل البعد عن الفهم الذي يُروج له بأنه إلغاء لشخصيتها، فالقوامة في الشرع لا تعمد لإلغاء شخصية المرأة، لا في البيت ولا في المؤسسة، بل هي وظيفة داخل كيان الأسرة ، لخطورة هذه المؤسسة حتى تبقى في مأمن وحماية، ووجود القيم لا يلغي حقوق وشخصيات الشركاء ولا العاملين فيها.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة