ما هي أحسن تربية ترجوها لأولادك؟ وهل هي الأصلح حقاً؟
كتب بواسطة هدى عبد الرحمن النمر
التاريخ:
فى : زينة الحياة
1574 مشاهدة
في السعي لتقديم "الأحسن"، يخطئ الكثيرون دلالة الأحسن، أو يخلطون تعريفه بين "الأصلح" و"الأكثر وجاهة اجتماعيًا"، من أهم السياقات التي تقع فيها إساءة الإحسان: تربية الأبناء، فتكثر أمنيات: أود أن أربّي أولادي "أحسن" تربية، وأعلّمهم "أحسن" تعليم، وأعيشهم "أحسن" معيشة، وكل تلك مقاصد مشروعة ونيات مأجورة بإذن الله تعالى، لكن السؤال: ما مفهومك للأحسن؟
إذا كان ذلك يعني أن يرمي الوالدان أولادهما في إحدى المدارس "الدولية"، ويرمي الأب بنفسه من جهة أخرى في دوامات وظيفية؛ لتأمين تكاليف الرمية الأولى، وترمي الأم نفسها في دوامة ثالثة من خدمة منزلية لا تنتهي لأصحاب الدوامتين الأوليين، فالسؤال الذي يطرح نفسه بعنف –وأقصد حرفيًا بعنف– ما وجه الحُسن في ذلك؟
بداية، القذف بالأبناء لأي بيئة خارج المنزل لا يُعفي الوالدين من مسؤوليات التربية ولا ينوب عنهما فيها ، ومن عجَز عن التربية أو جهلها فالواجب أن يعهد بالأبناء لمن يربيهم حقًا، ويتعلم من شؤون التربية ما يعين على متابعة نشأة الطفل على ما يجب أن ينشأ عليه شرعًا وأدبًا وعلمًا وعملًا، ومادّة النظام المدرسي القائم اليوم أبعد ما يكون عن مقوّمات البيئة التربوية السويّة، فالتعويل عليه "وحده" جريمة كبرى في حق الأبناء، وجريمة مضاعفة في حق الآباء؛ إذ يفنون أعمارهم في سبيل غيرهم، ثم تكون هذه نوعية الأجيال التي ينتجون!
وثانيًا، تنشئة الأطفال على الانضباط واحترام المسؤولية وتقدير الأوقات لا يكون بحشوهم بالواجبات المدرسية كأصابع الباذنجان المنتفخة، ولا بجذبهم من الفراش في أحلك الساعات وجرجرتهم للحافلة بأعنف المشاحنات، وتحريرهم من العقد النفسية لا يكون بإغداق الأموال عليهم بلا حساب، ومساواتهم بكل ما عند أقرانهم، وتعليمهم الأناقة لا يكون بتحليتهم بأغلى الماركات، وفي المقابل، تعليمهم الاقتصاد لا يكون بالتقتير عليهم، والحشمة لا تكون بإلباسهم المبتذل من الثياب، والزهد لا يكون بمنعهم من النظر لما عند غيرهم، هذه الأنماط كلها –بلا استثناء– "تخلق" العقد النفسية خلْقًا وإن اختلفت أنواعها.
تنشئة الأطفال على الانضباط واحترام المسؤولية وتقدير الأوقات لا يكون بحشوهم بالواجبات المدرسية كأصابع الباذنجان المنتفخة، ولا بجذبهم من الفراش في أحلك الساعات وجرجرتهم للحافلة بأعنف المشاحنات
وأما هَوَس إتقانهم للغات الأجنبية فلا يكون بتعريض الطفل للبيئة الأجنبية قبل رسوخه في بيئته الأم، بل غاية ما يؤدي له ذلك طمس الأصل وتشوّه الفرع؛ لأنهم جاهلون في لباس متعلّمين، فلا يُقِرّون بالجهل، ولا يحصّلون شيئاً بالنتف التي تعلموها، وإشكالية تعلّم اللغة أو غيرها من العلوم تتمثل في نهج التعلم وشخص المتعلم، إذا انضبط هذان استقام العلم ولو في صحراء بلقع، وإذا لم ينضبطا لن يستقيم تعلم ولو في قاعة فندقية، وليت الشأن يقتصر على عُجْمة اللسان وانعقاده، بل يتعداه لعُجمة الفكر وتعقّده، فالمدرسة بيئة فكرية ومجتمع ذو نمط ثقافي غالب، والمصيبة أن بيئة المنزل في الغالب ليست بأحسن استقامة.
والطفل في سنوات عمره الأولى عجين قابل للتشكّل بسهولة من كل وجه، المَثَل يقول: "كثرة الطباخين يُفسد المَرَق"؛ لأن لكل منهم ذوقًا من جهة مغايرة -لا ريب- ستتعارض، وتنشئة الطفل على التفتح الثقافي غير تنشئته وسط تشتت ثقافي، الأولى تتم حين يرسخ في هُوِيّته أولاً، والثانية تقع حين تُدخِل صحيحًا لغرفة حجر صحّي دون وقاية، والواقع خير شاهد على التشتت والتشوّه الحاصل، في أجيال كاملة لا تحسن العربية لغة ولا تفهمها هُوية، ولا حتى تتبنّى من الثقافات الأجنبية ما يكفي ليجعلها من أهلها، وفي أجيال كاملة جاهلة بالشرع الذي تدّعي اتباعه، وتكفر بالله في أفعالها، وتُعلِن الإيمان به بلسانها في آنٍ معًا.
تنشئة الطفل على التفتح الثقافي غير تنشئته وسط تشتت ثقافي، الأولى تتم حين يرسخ في هُوِيّته أولاً، والثانية تقع حين تُدخِل صحيحًا لغرفة حجر صحّي دون وقاية
وبعد كل تلك الجهود المستميتة في تضارب قاتل، تبدأ أسطوانات الشكوى من العيال الفاشلين ذوي الآفاق الضيقة رغم سنوات التعليم الباهظة، والحوقلة على العمر الضائع في سبيل أولئك الجاحدين لوالديْن لم يعرفوا من والديّتهم سوى دفع المصاريف، وإصدار الأوامر والنواهي، والاستجارة بالله من الجيل الحائد عن شرعٍ لم ينشأ في بيئة تقيمه أصلاً، ولا شهد في سن الاقتداء قدوة صحيحة قبل أن تكون صالحة!
فأين وجه "الأحسن" في كل تلك المعمعة المُهلِكة؟! بل ما كان وجه الحسن بداية؟
إن الأحسن في تربية الأبناء، الأصلح في تنشئتهم على ما يجب أن ينشأوا عليه، وهذا يعني:
- أن يتعلم كل أب وأم ذلك القدْرَ الواجب أولًا، ويقدّموه فوق وقبل أي تعلم آخر.
- أن يتدارسا الأصلح؛ لتحقيق تلك الغاية، في ظل ظروفهما وسياقهما المخصوص، ووفق ما يرتضيان مسؤوليتهما عنه.
وقد يكون ذلك الأصلح عند البعض تعلّم ما يحتاجون نقله للأولاد بأنفسهم، أو الاعتماد على مُربّ أو معلم ينوب عنهما بإشرافهما القريب، أو إدخال الأطفال المدارس في سن متأخرة، أو إدخالهما مدارس أهليّة، أو تأجيل الدراسة عامًا بين المراحل الدراسية؛ لتوفير وقت أسري، أو تقليل ساعات الوظيفة المهنية؛ لتوفير ساعات الوظيفة الأسرية، أو الاتفاق على نظام اقتصادي ومعيشي معيّن، وترتيب أوقات البيت...إلخ، تختلف صور الأصلح لكن ينبغي الوضع في الاعتبار أن الأصلح في زماننا هذا سيكون في الغالب مغايرًا لمعايير الوجاهة الاجتماعية، ولا يتكلف مالًا ومادّة بقدر ما سيتطلب نيّة جادّة، وجهدًا صادقًا، وصبرًا طويلًا .
والطريف أن من لا يملكون الرصيد الثاني أو يبخلون به أو يتكاسلون عنه، هم الأبرع والأسرع للإنفاق الحاتمي ماديًا؛ لأنه يخدّر ضمائرهم، ويشعرهم شعورًا كاذبًا -وإن صدّقوه- بتمام مسؤوليتهم، والأكثر طرافة أن الغالبية "تستهل" اتباع العرف السائد على بناء نهجها الخاص، فيجرون جري الظمآن لاهثاً وراء سراب لا هو شَرب به ماء يرويه ولا هو أراح بدنه من عناء لا يعنيه!
هذا ولا تتم مسؤولية مسؤول حتى يكون مستعدًا للجواب عن الأمانة التي سيُسأل عنها، فإن كنتَ ترتضي حقًا وحقيقة النهج الذي أقمته لنفسك وأهل بيتك، وتستحضر إجابتك عنه حين تسأَل ماذا عملتَ فيه، فاثبت عليه وذلك حقاً "أحسن" ما عندك، وإن لم يكن، فماذا تنتظر؟!
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة