لماذا الإلحاد أم لماذا الدين؟!
كتب بواسطة أحمد التلاوي
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
5125 مشاهدة
تزايدت في الآونة الأخيرة أحاديث الشك والإلحاد في أوساط شريحة ضخمة من الشباب، فتية وفتيات، في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، ضمن تيار أكبر يتنامى على مستوى العالم.
ولا تخص هذه المسألة ما سبق وإن جرت مناقشته من مشكلات مماثلة ظهرت في أوساط الصف الحركي الإسلامي، وإنما نعني هنا السياق الذي يمسّ أمورًا أكثر اتساعًا في نطاقاتها، وهي قضية الدين في المجال المجتمعي والإنساني، وفي القلب من ذلك تراجع موضع الدين، بمختلف أركان الكلمة، عقيدة وعبادة ومعاملات، وسلوكاً وأخلاقاً، في ضمير ونفوس المسلمين.
وفي حقيقة الأمر، فإن انتشار التيارات الإلحادية بلغ مستوىً أثار القلق ليس حتى في صفوف القائمين على شؤون العمل الإسلامي، وإنما إلى كل المعنيين بشؤون الأديان في مختلف المجتمعات الإنسانية، ولاسيما الأديان السماوية، حيث لا تعرف المجتمعات التي تدين بالأديان الوضعية، مثل البوذية والكونفوشية والهنوسية، مثل هذه المشكلة.
ومن خلال أدبيات وأنشطة عديدة نراها من الفاتيكان، وعلى مستوى كنائس مشرقية وغربية أخرى، فإنه يمكن القول إن التيارات الإلحادية باتت تهدد مساحات التدين بشكل عام في عالمنا المعاصر .
وثمَّة نقطتَان في هذا الصدد ينبغي الإشارة إليهما، أولها- أن قضية الإلحاد ترتبط بسياقات ومظاهر عدة، فلا يكون الإلحاد بمعناه المباشر الذي يتبادر للذهن عن قول كلمة "إلحاد"، وإنما يرتبط الأمر بسلسلة من الممارسات التي تمثل شكلاً من أشكال الارتداد عن التديُّن، مثل خلع الحجاب وحلق اللحى في بعض المجتمعات المسلمة، وصولاً إلى الارتداد عن الدين نفسه، مثل الكفر بالقضاء والقدر تحت وطأة مشكلات حاصلة، أو كفران النعمة، أو الخروج عن فكرة الإيمان بوجود الخالق عز وجل، مثلما يقول الملحدون، أو يؤمنون بفكرة وجود الخالق، ولكنهم لا يتبعون دينًا معينًا، ويرفضون فكرة الأديان في حد ذاتها، مثلما يقول اللا دينيون.
النقطة الثانية -المهمة في هذا الإطار- تتعلق بأسباب تصاعد مثل هذه الظاهرة، وأهمها الأزمات السياسية والاجتماعية والأمنية التي تجتاح مناطق مختلفة من العالم، وقادت إلى بحث الكثيرين –بمئات الملايين– عن نقطة السلام النفسي، فيجدونه في العقائد والديانات المشرقية، مثل البوذية والكونفوشية، حيث النواحي الروحية تطغى على ما سواها في هذه الديانات والعقائد.
ولعل هذه النقطة تثير في حد ذاتها العديد من القضايا، أهمها أن هذه الديانات لا يوجد فيها أي جبرٍ أو سطوة لكهنوت كما في المسيحية، أو لرموز وشخصيات في بعض الممارسات الخاطئة التي يتجاوز بها علماء الدين دورهم الدعوي، إلى مستوى الوصاية على السلوك.
وفي حالة الساحة الإسلامية، فإن هذه المشكلة ظهرت ووضحت أكثر ما ظهرت، في حالة الجماعات التي تصف نفسها بـ"الجهادية"، عندما سيطرت على مناطق في بعض دول الأزمات والحروب الأهلية في الشرق الأوسط، بعد ما يُعرَف بثورات الربيع العربي، حيث تم التعامل مع المجتمعات المحلية وفق مفاهيم تختلف بالكُلِّيَّة عن الآليات السليمة للدعوة وللحكم بالمفهوم الإسلامي كما في الممارسة النبوية، وفي ممارسة الخلفاء الراشدين.
في حالة الساحة الإسلامية، فإن هذه المشكلة ظهرت ووضحت أكثر ما ظهرت، في حالة الجماعات التي تصف نفسها بـ"الجهادية"، عندما سيطرت على مناطق في بعض دول الأزمات والحروب الأهلية في الشرق الأوسط حيث تم التعامل مع المجتمعات المحلية وفق مفاهيم تختلف بالكُلِّيَّة عن الآليات السليمة للدعوة وللحكم بالمفهوم الإسلامي
وكانت النتيجة مروعة على صورة الدين ومعتنقيه، وعلى الصورة الذهنية لعملية نشر الدعوة كما رأينا في مناطق سيطرة تنظيم الدولة "داعش" السابقة في العراق وسوريا، ولاسيما بعد اتضاح كون بعض هذه المجموعات في الأصل صنيعة أقبية حكومات وأجهزة مخابرات دول غير مسلمة، وهذا يعني أن ذلك الأسلوب مقصود، وأنه –بالتالي– وفق المنطق البسيط، لا يمت للإسلام بأية صِلَة.
وشقٌّ آخر في هذه المشكلة، صار للأسف من حقائق الأمور، هو السقوط المروِّع لرموز و"علماء" كانوا قدوات لجيل كامل من الشباب، في وحل السياسة، ووضوح أنهم تُبَّع لأنظمة، أو لجماعات هدَّامة، أو حتى يتخذون من الدعوة وسيلة لكسب العيش، وما يُطلِق عليه العوام مصطلح "التجارة بالدين" من زاوية التكسُّب بشكل يخرِج الداعية عن الصورة الذهنية المطلوبة.
وهذا يثير نقطة القيود مرة أخرى؛ ذلك أن الإسلام لا يعرف الكهنوت، ولا يعرف قضية وجود وساطة بين العبد وربِّه سبحانه وتعالى، ولكن إصرار بعض المدارس أو المذاهب على تصدير العلماء، وربط الناس في دينهم "بالضرورة" بهم، خلق مشكلة كبرى لمّا انحرف بعض هؤلاء .
ولكن هذا لا ينبغي له أن يُفهَم على أنه دعوة لتحييد دور العلماء والدعاة في حياتنا، حيث هم المفسِّرون والذين يقومون بنشر دين الله تعالى والتعريف بشريعته، ولكن مقصود الحديث هو أنه لا يجب أن تكون لهم صفة تمثيلية الدين أو تمثيلية المسلمين، وألا تُفهَم اجتهاداتهم على أنها الشريعة ذاتها.
واقع وأسباب المشكلة... نظرة مغايرة
لو أننا تأملنا عنوان هذا الحديث، "لماذا الإلحاد أم لماذا الأديان؟!" فإننا سوف نقف أمام العديد من المغازي التي تقترب من هذه المشكلة اقترابًا مخالفًا، وبالتالي يفرض البحث عن أدوات جديدة للتعامل مع الموقف.
بدايةً، يجب التأكيد على أن مكمن الخطر الحقيقي، ليس متعلقًا بانحرافات سلوكية أو حتى عقدية، ولكنه متعلق الإيمان بجوهر فكرة "الدين" ذاتها .
وهذا أمر يجب فهم نقطة خطورته، ولفهم هذه الخطورة نضرب على ذلك مثالاً. عندما انتشرت البعثات التنصيرية في مناطق أفريقيا السوداء، أي وسط وجنوب القارة، حيث تسود الديانات والعقائد الوثنية، كان لبعض الدعاة المسلمين موقفًا مغايرًا من موقف الرفض والتوجُّس الذي يتبناه البعض من العلماء والجماعات الإسلامية بشكل مبدئي من أنشطة التنصير.
فالمخالفون في هذا الموقف، يرون أن البعثات التنصيرية تلعب دورًا مهماً في تمهيد البيئات المحلية الوثنية هذه لقبول فكرة "الدين" من منظور الديانات السماوية، والتي تتضمن فكرة وجود إله خالق ورب مدِّبر لهذا الكون، وفق مفهومنا لـ"الله" عز وجل، وبالتالي فإنه سيكون من السهل نشر الإسلام بعد هذا التمهيد أو رسوخ هذه الأرضية المفاهيمية.
إذًا نحن أمام مشكلة كبرى؛ حيث إن الإيمان بجدوى الدين تراجع، فيما صارت فكرة "اللادين" أو "الإلحاد" أو الإيمان بـ"فلسفات السلام والسمو الروحي" المنتشرة في الشرق على وجه الخصوص -هي الأقرب.
ونقطة "الجدوى" هذه على أكبر قدر من الأهمية والمركزية في هذا الصدد؛ حيث إن ردود هؤلاء –ملحدين أو لا دينيين أو غير ذلك- على العلماء والمحاورين الذين يحاولون إقناعهم بمركزية فكرة الدين –أيًّا كان– وبفكرة الخالق، وبأهمية الالتزام بالشريعة، صارت الردود موجزة في عبارة: "لماذا الدين؟!".
ففي حقيقة الأمر هناك قصور بالغ تناولناه في مواضع أخرى من الحديث، في توضيح كيفية معالجة الدين لمشكلاتنا الواقعية، وكيف يقدِّم آليات الإصلاح الفردي والمجتمعي، وكيف أن الدين يقدم البوصلة التي تتضمن الإجابة عن أسئلة على أكبر قدر من الخطورة والأهمية، مثل لماذا خُلِقَ الإنسان، ودوره في الدنيا، وكيف يتوجه سعيه، وكيف يتعامل مع مشكلاته.
فللأسف، فإن الخطاب الدعوي في وقتنا الراهن، وقف عند حدود العبادات وما يُعرَف بالهدي الظاهر، مثل إطلاق اللحية، وجدل الزي الشرعي، بينما مشكلات الواقع طاحنة، وتمس كرامة ومروءة الإنسان، والأولى أن يتم البحث في دقائقها وطرائق معالجتها.
الخطاب الدعوي في وقتنا الراهن، وقف عند حدود العبادات وما يُعرَف بالهدي الظاهر، مثل إطلاق اللحية، وجدل الزي الشرعي، بينما مشكلات الواقع طاحنة، وتمس كرامة ومروءة الإنسان، والأولى أن يتم البحث في دقائقها وطرائق معالجتها
وحتى الحركة الإسلامية الصحوية، نجد في أدبياتها التي تتناول قضية البوصلة والتوجيه هذه، إعلاءً من قيم الجهاد ومعالي الأمور، بشكل لا يمكن لكل المسلمين أن يكونوا عليه في ظل اختلاف الظروف، والفروق الفردية، وأن الإنسان بطبعه ضعيف أمام احتياجاته المعيشية.
فلا يمكن لنا جميعًا أن نكون مقاتلين، ولا يمكن لأصحاب العقول البسيطة تصور أنفسهم أدوات في الصراع والتدافع الحضاريَّيْن، فهذه الفئات، وهي الأكبر بلا أدنى شك، كان ينبغي البحث في مشكلاتها البسيطة والعظيمة في آنٍ، بالذات في ظل الانفتاح الإعلامي المروِّع وغير المرشَّد الذي سمح بالاطلاع على أنماط حياة وعيش لا يمكن معها إقناع أجيال نصف متعلمة، ولم يتمكَّن منها الدين بالشكل الكامل في الجوانب الروحية والأخلاقية، بفضيلة الزهد مثلاً!
وبشكل عام، فإن هناك ملحظٌ أو مأخذ على عملية التدافع ضد هذه التيارات بين ظهراني المسلمين، وهي أن هناك حالة من عدم الاعتراف بأن هناك قصورًا ومشكلات داخلية في عملية التعريف بالدين ونشره، وما يتم إبرازه من جوانب مختلفة فيه.
فالدعاة والعلماء دائمًا يتصدرون بمنطق خاطئ به بعض الاستعلاء الذي يدافع عن الدين وكماله، وينظر لهذه الفئات نظرة دونية، بينما هذه الفئات لم يروا من الدين ما يعالج مشكلاتهم، وما يثبت كماله.
الدعاة والعلماء دائمًا يتصدرون بمنطق خاطئ به بعض الاستعلاء الذي يدافع عن الدين وكماله، وينظر لفئات عوام الناس نظرة دونية، بينما هذه الفئات لم يروا من الدين ما يعالج مشكلاتهم، وما يثبت كماله
كذلك، غالبية الخطاب الذي يقوم به حتى علماء مسلمون من المتخصصين في مجالات العلم الدنيوي، أو العلم المادي، ولكنهم يعملون في مجال الدعوة الشرعية، ينصب على الدفاع عن الدين، مثل إثبات أنه لا يتعارض مع العلوم المادية، أو أنه لا يتعارض مع المفاهيم الحضارية، بينما هذه بديهيات يعرفها العالم كله من قرون طويلة ساد فيها الإسلام ودولته، وقدّم علماء المسلمين علومًا ومكتشفات، بعضها كان الأساس الذي نهضت عليه العلوم الحديثة، ومفتاح خروج أوروبا من عصور الظلامية أصلاً، وهم لا ينكرون ذلك، وبديهي بحيث لا نجد أنفسنا بحاجة إلى التدليل عليه بأمثلة.
وفي الأخير، فإن هناك ضرورة أمام علمائنا ودعاتنا، وأمام الجماعات التي تتصدر مساحات العمل الإسلامي، التصدي إلى تقديم إجابات تفصيلية عن سؤال: "لماذا الدين"، ومخاطبة الشرائح التي فقدت الثقة في فكرة التديُّن والارتباط بالدين في حياتهم في مشكلاتهم الواقعية، وتقديم نماذج لمعالجتها.
ويتضمن ذلك التأكيد على حقيقة مهمة، وهي أنه لولا الدين، بما يتضمنه من ضوابط في المجالات الأخلاقية والسلوكية، وبما يتضمنه من أفكار وعقائد في مجال الخوف من عقاب الله تعالى، وخشيته -لتحوَّل العالم إلى غابة أكثر مما هو عليه الآن !
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة