وقفة مع الذات.. اعتزل حتى تعتدل
كتب بواسطة منال الحاج
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
3172 مشاهدة
يبدأُ أحدنا في الانغماسِ داخل الحَياة لا يلوي علی شَيءٍ ولا يَأبه بنفسِه التي يُقحمُها في مُجابهة المَخاطر لوصلِ أمرٍ ما، لا هدفَ يترأَّس أفكاره، ولا خُطَّة تُوجِّه رَغبَاته، ولا غاية تَستَهلُّ مَعاركه، فيكون لِزامًا أن يُلحق بمحيط ذاته الأذى المعنويّ إن لم نقُلْ المادِّي. إن أيَّ مُراقب لحال ذاته يعلم علم اليقين كيف ينعكس شكل العالم من حولنا -الأشدَّ وحشةً وظُلمًا وغرابةً وسلبيَّة- على عالمنا الدَّاخلي الذي نلتحم فيه مع أرواحنا ونخلُو إليه كُلَّما سكنت طُبول حَرب العالم، ليتكشَّف لنا عالمًا أشدَّ صِراعًا وأعتى حُروبًا في دواخلنا!
ذلك أن هُناك أفكار تكونَّت فيه وتفشَّت داخله كوباءٍ يزداد كل يومٍ ولا ينقُص، لا علم لنا متى بدأت ولا أين ستنتهي.. وكأنَّها جيوش الأرض جمعاء التي لا قِبل لنا بها، استنفرت في مجدها، فوجَّهت فُوهة مُسدَّسها نحونا. نحنُ نعي أنَّنا بحاجةٍ لتعقيم عُقولنا وتطهير أنفُسنا ممَّا خامرها وجَال في أعماقها واستوطن، وأنَّ القضاء عليه يستوجب عُزلة ما تُشبه حجرًا صحيًّا على مريضٍ بين الفينة والفينة. والعُزلة المعنويَّة هي المرحلة التي نحتكم فيها على أرواحنا وأفكارنا ونستمع إليها بصمت، ونسيطر على ما وَرَد إلينا من محيطنا الخارجيّ، والأمر يكمن في تفريغ ما لكلِّ الأفكار والآراء فإذا تمثَّلت أمامنا كاملة ولفظناها جُملةً واحدةً لاحقنا بواعثها حتَّى معاقلها الأخيرة.. وتمَّت رحلة التَّخلُّص من كل ما عَبَثَ بذواتنا.
هذهِ الرِّحلة هي وقفة مع الذَّات وخلوة بها، بعيدًا عن غمام الواقع المُعاش وبهرجة الحياة نستنطق فيها رغَبَاتنا، ونُعيد إحياء شَغفِنا، وترميم أهدافنا، وإصلاح ما تكسَّر من أشرعة التَّوق للتغيير؛ لنعاود الانبعاث في وسط قد لا يُشبه فينا شيئًا بالضَّرورة، دُون أن يُشكِّل ذلك أيَّ عبءٍ أو صراع تكُون نتائجه في الغالب تداخل الأهداف والرَّغبات وتشابه أوجه أولويَّاتنا وأولويَّات الرَّكب المُحيط بنا والسَّيل المُجتمعي فننجرف معه غير مُحاطين بوجهتهم، مُحاولين بذاتِ القَدر الحِفاظ على رباطة الجَأش ووحدة الصَّف بيننا وبين ما نحمل من أنَانَا وما يعبِّر عنَّا!
لا تكُون الخلوة بالنفس لِزامًا إلا عندما تكُون اعتذارًا للنَّفس عن كُلِّ تشوُّه التصق بنَا.. وكلُّ شائبةٍ عكَّرت صفونَا.. وكُلِّ أذًى تمرَّغنا به.. عن كُلِّ سُوءٍ حَاق بنا من اختلاط دُون ضوابط
لكنَّنَا قد ننسَى أو نتغافل عن أنَّ عمليَّة الأخذِ والعَطاء، والكَسْب والإكساب عمليَّة غير مُزدوجة أو آنيَّة، ولا تتمُّ في حالةٍ من عدم الاتزان كما وصفتها؛ إنَّما تتم بتتابع.. فَقَد تتلاحق أو يكون بينهما وافرٌ من الوقت يكفي لتتمَّ بوعي أكبر، وإلا لكان ضررها على المُحيط والذَّات غير محمود العَاقبات.. كمن ينعق بما لا يسمع أو كمن يعزف مقطوعة موسيقية لجمُوع من الصُّم، فالوعي والادراك أساسَ التَّحوُّل بل وطُور من أطوار التَّغيير.
وتكمُن مخاطر التَّفاعل اللَّا مشرُوط بيننا وبين المُحيط في أنَّه لا يتسنَّى معرفة ما للنَّفس وما عليها، وما للمُحيط وما عليه، وهُنا لا يصلُح ولا يجب الخَلط وإلا سينتهي الأمر حيثُ بَدَأ وسيسكن النَّفس مُحيطٌ لا يَجِد له مُتَّسع في أفاقِ أنفسنا الضَّيقة التي لا تتَّسع إلا لأحلام يبدأ توهُّجها من قرَارَة النَّفس.. شرارتها الأولى رغبة أو شَغَف، لا من أحلام جاهزة يُروَّج لها كما يُروَّج للسِّلع.
يكون الصَّمت لزامًا ومقدرًا بلا نَوع أو كمٍّ.. عندما يكثر اللَّغو وينحصِر المَنطق ويضِيق عليه الخِناق، في زاوية لا تعدُو إجابة واحِد زَائد واحِد، وعندما نتفقَّد أفكارنا فنجدها صرعى كأنَّما خر عليها سقف الرَّيبة فهَمدت، فهذه السِّهام التي دخلنا بها مُعترك الحياة يومًا تحوَّلت إلى سِهام من ورق. وعندما نُرهف أسماعنا لنُنصت لما يبوح به صوتنا الدَّاخلي وبُوصلة السَّويَّة، تقاطعنا أصوات صَاخبة لا نعلم مصدرها.. فلا نَشعُر إلا وقد حملنا العالم في أحشائنا بكل بشاعته وزَيفه!
زيتٌ وماءٌ معًا.. إلا أنَّهما لا يختلطان، وإن سُكبا في ذات الإناء معًا ما يلبثا حتَّى ينفصلا، فكمُّ الاختلاف بين المُحيط والذَّات يُجبر الذَّات على الانفصال حتى وإن كانت الذَّات لم تُغادر سياج مُحيطها، كما الزَّيت، كما المَاء، كُلٌّ ظاهر بشكله ولونه ومُسمَّاه وخواصه الفيزيائية التي لا تكتَفي بأن تقُول كلمتها بل تردفها بإثباتٍ واحد ألا تجانس بينهما، وهذا هو المعنى الظَّاهر لكُل شَاهد.
فليفكِّر كُلٌ منَّا أنَّه إذا ما طُلب منه أن يفكر "خارج الصندوق" كيف كان أوَّل ما يرميه خارج الصُّندوق نفسه تاركًا ما يوازي خواصه الفيزيائيَّة التي تُعبِّر عنه هو لا أحدًا غيره. مُستعيضًا عن أفكاره وأحلامه وطموحاته بأفكارٍ لا تَمتُّ له بصلَةٍ بحُجَّة الذوبان والتَّعايش والتَّأقلم في المُجتمع والمُحيط عطفًا على سُلوك النَّسخ واللَّصق، حتَّى باتت أنفسنا كصفحاتٍ بيضاء كُتب عليها ومُسِح عنها آلاف المرات فباتت باهتةً من بياضها، مُشوَّهة لا تَظْهَر عليها معالمُ أفكارُنا بوضوحٍ ولا يستطِيع أحدٌ قراءتَها أو فَرزَها. لكنَّهُما يتماسَّان، الزَّيت والمَاء.. بل حتمًا يتماسَّان في نُقطة ما تنهي فيها حُدود الزَّيت لتبدأ حُدود المَاء وهذا لا يتنافى مع خواصهما الفيزيائية. نلتصق بالمُحيط لكنَّنا لا نضيع دَاخلَه، نلتصق به لا نتيه داخله ونتفتَّت.. نرتقي به ونطفُو بمعَالم تميِّزُنا أو أثرٍ يصطلى به.. نهتدي به لكنَّه لا يهتدي علينا أبدًا.
لا تكُون الخلوة بالنفس لِزامًا إلا عندما تكُون اعتذارًا للنَّفس عن كُلِّ تشوُّه التصق بنَا.. وكلُّ شائبةٍ عكَّرت صفونَا.. وكُلِّ أذًى تمرَّغنا به.. عن كُلِّ سُوءٍ حَاق بنا من اختلاط دُون ضوابط، عن كلِّ فوضى لحقنا بها فلحقت بنا، عن كُلِّ مُرٍّ أقحمنا أنفسنا بداخله فاستساغنا فما ذُقنا إلَّاه، عن كل صُورة أفزعتنا من أنفُسنا لمعرفتنا أنَّ فيها ما ليس فينا.. عن كلِّ فكرة لم نتفرَّسها جيدًّا فكانت سَقطَة بدَلَ القَفْزة، عن كلِّ حديث أسهبنا فيه فلا كان لغوًا أو بلاغة؛ إنَّما تنازعت فينا المُسميَّات في طيَّاته وبِتنَا لا نُدرك أيَّ صفة تتفرَّد بنَا.. عن الأشخاص الذين ظننا أنَّنا نسحبهُم لقِمَّتِنَا فارتطمنَا بقاعهم فعلمنا أنَّنَا اكتسبنَا منهم أكثَر مِمَّا اكتسبُوا منَّا.
عن كُلِّ فكرةٍ، وشُعُورٍ، وشَخصٍ انتهكوا خصوصيَّة أرواحنا وما خلَّفَت إلا تشوُّهات التَصقَت بعينِ أرواحِنا فتَوَائمَت معَها.. وحَمَلناهَا على أكُفِّ قُلُوبنا فاقترنَت بنا وما بتنَا نعرف لانتزاعها منَّا سَبيلًا.. حتَّى إذا شَاهدنا صُور دواخلنا فنَمَّت عن مظهر لا يليق بها ولا يقلُّ بشاعة عمَّا نستنكِرُه في مُحيطنا. في العُزلة استمع لنفسِك وشَاهدها عن كثب وتفحَّص دقائقها احفظها جيدًّا حتَّى ترتدَّ إليها وأنتَ تعلَم ما كانت عليه وما صَارت إليه.. احفَظ لها طريق عودتِها حتَّى لا تثقل خطُاك في العودة.. استعمِلها ولا تَستَبدِلها.. فشَرُّ ما يُعرف به المَرءُ ألا يُعرف بطباعِه أو عَادَاته.. وأختم بقَولٍ بليغٍ ل د. محمُود مُصطفى -رحمَه الله-: "والخُلوة مع النَّفس شيءٌ ضروريٌّ ومُقدَّس بالنِّسبة لإنسان العَصر الضَّائع في متاهات الكَذِب والتَّزييف"!
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة