عقوبة العلماء
للعلماء مكانة عظيمة عند الله عز وجل، ويكفي دلالة على ذلك قولُه تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط} [آل عمران: 18]، وقد أشار غير واحد من أهل العلم، إلى أن الله تعالى قرن في هذه الآية شهادة العلماء بشهادته وشهادة ملائكته، وأشهدهم على أعظم مشهود، وهو توحيد الله جل وعلا، وبهذا يكون قد زكّاهم وفضّلهم على غيرهم، فهو -سبحانه- لا يستشهد إلا بالعدول، وهو -سبحانه- أشهدهم دون غيرهم من سائر البشر.
ولذلك؛ ينبغي على العالم أن يزهد بما في أيدي الناس، ولا ينظر إلى متاع الدنيا الزائل بعين مفتوحة، وإنما يغض الطرف عنها ما استطاع، حتى لا تشغله عن مهمّته التي زكّاه الله بها. فإن المرء إذا عظُمت الدنيا في عينه، وصارت أكبر همّه؛ كان ذلك مدخلاً واسعاً لولوج الانحراف إلى قلبه، حيث تردُ عليه موارد الشيطان، ويصبح ما يراه بعينيه من زينة الدنيا قوساً يوجّه سهامه إلى هذا القلب فلا يلبث أن يسقط قتيلاً، وهنا يتردّد صدى صرخة الإمام الثوري رحمه الله: (عقوبة العالِم موتُ القلب).
والعالِم إذا مات قلبُه، لا يُنتفع به، فهو كالحجر الأصم الذي تدحرجه الأيدي وتركله الأرجل، ولا يملك لنفسها حياة ولا نشوراً. والعالِمُ رؤيته تذكّر بالله، وتزهّد في الدنيا، وترغّب في الآخرة، ولو لحظ المؤمن قلبه ماذا يخطر فيه عند رؤية هذا العالم أو ذاك؛ عرف مبلغ مَن يراه مِن التقوى والعلم.
العالِم إذا مات قلبُه، لا يُنتفع به، فهو كالحجر الأصم الذي تدحرجه الأيدي وتركله الأرجل، ولا يملك لنفسها حياة ولا نشوراً
واليوم.. يقع نظرك على أحد المنتسبين للعلم؛ فتتذكّر تجارة الكتب وسرقة النصوص العلمية، وآخر يذكّرك بالجدال العقيم والأنفة وبطر الحق، والثالث يذكّرك بالنفاق والتزلّف للأمراء والسلاطين، طلباً لرضاهم ولو بسخط الله... والرابع والخامس والسادس!
كلّ هؤلاء وأولئك ليسوا من زمرة العلماء، فقد قيل للإمام الشعبي: يا عالم ! فقال: (إنما العالم مَنْ يخشى الله)، وماذا بلغ هؤلاء من علم الشعبي يا ترى؟ وأين خشيتهم لله وهم يؤثرون الدنيا على الآخرة؟
بعض من يظنّ نفسه من العلماء، أو يُظنُّ به أنه من العلماء، إذا حاورته في مسألة فإنه لا يرى الحقّ إلا ما جرى على لسانه، وربّما يلجأ إلى الكذب والتحريف -متدثراً بالتورية- ويُتبع ذلك بالأيمان المغلّظة، كلّ هذا ليثبت صحة مذهبه، وصواب قوله، وأنه وافق الحق، ولسان حاله يقول: هنيئاً للحق فإن الحق وافقني!!
أيُعدّ هذا من العلماء يا ترى؟ وقد قال مسروق رحمه الله: (بحسب امرئ من العلم أن يخشى الله، وبحسب امرئ من الجهل أن يُعجَب بعلمه)!
وآخر تلبّس بنفس ما يظن صاحبه من نفسه -أنه عالمٌ نحرير، ومحقّق خرّيت، وأنه أعزّ في هذه الأمة من الكبريت الأحمر- لا تجد له مؤلّفاً إلا وملأه بعبارات اللعن والشتم والسِّباب، وإذا أراد أن يتلطّف قليلاً فإنه يلجأ إلى التصغير والتحقير، وإذا بلغ الغاية في التلطّف فإنه يكتفي بالغمز واللمز وخائنة الأقلام وعلامات التعجب المتكاثرة.
أيُعدّ هذا من العلماء، وقد قال حبيب بن الشهيد لابنه: (يا بني.. اصحب الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخُذْ من أدبهم، فإنه أحبّ إليّ من كثير الحديث)؟.. إيه أيها الحبيب! دُلّنا على هؤلاء حتى نصحبهم ونأخذ من أدبهم، وننهل من جميل سمتهم.
قديماً قال محمد بن سيرين ومالك والفضيل وغيرهم من السلف: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم).
فكما أن للعالم -حتى يكون عالماً- شروطاً، فإن له جوارح تجرح عدالته وتُسقطه من جملة العلماء، وخوارم تخرم هذه المكانة الجليلة، من أهمّها: أن تقلّ هيبة الله عنده، وتكبر نفسُه -هو- في نفسه، وأن يشار إليه بأنْ: ذاك هو صاحب الخلُق الذميم فاحذروه.. ذاك هو عالِم السلطة الظالمة فاجتنبوه!
وبهذا يُقام العدل، وينال كلُّ موصوف بالعلم عقوبتَه.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة