هل انتشر الإسلام بالسيف أم الأخلاق؟ (٢)
كتب بواسطة مصطفى البدري
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1745 مشاهدة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، الله خير مما يشركون؛ وبعد.
ذكرنا في المقال الماضي واقعية فكرة أن الإسلام انتشر أساسًا بفضل الجهاد في سبيل الله عبر الغزوات والفتوحات التي جابت مشارق الأرض ومغاربها.
ونستفتح مقالنا هذا بالجواب عن سؤال: ما هي الأدلة الشرعية على ارتباط نشر الدعوة الإسلامية بالجهاد؟
وفي البداية نستحضر قول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده، من بعد قيام الحُجة عليه؛ ولهذا أقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاثة عشر سنة تُوحَى إليه السور المكية وكلها جدالٌ مع المشركين وبيان وإيضاح للتوحيد وتبيان ودلائل. فلما قامت الحجة على من خالف، شرَع الله الهجرة وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذّب به وعانده. اهـ
قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
وأمر الله تعالى بإعداد العدة لمجاهدة الكفار وإرهابهم، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}.
فلو كان الإسلام لا ينتشر إلا بالدعوة السلمية فقط، فمِمَّ يخاف الكفار؟ أَمِن كلام يقال باللسان فقط؟ وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “نُصِرتُ بالرُّعب مسيرة شهر” وهل يُرعَب الكفار أن يقال لهم أسلموا، فإن لم تسلموا فأنتم أحرار فيما تعتقدون وتفعلون!! أم كان يرعبهم الجهاد وضرب الجزية والصغار، مما يحملهم على الدخول في الإسلام لرفع ذلك الصغار عنهم؟
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام دعوة مقرونة بالسيف، ويأمر بذلك قُوَّاده، لعل الناس إذا رأوا القوة وجِدَّ المسلمين في الدعوة إلى دينهم تزول عنهم الغشاوة.
روى البخاري ومسلم عن سَهْل بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ: “لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ” فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ، فَقَالَ: “أَيْنَ عَلِيٌّ؟” فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الراية. فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: “انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَئِن يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ”.
فهذه دعوة إلى الله سبحانه مقرونة بقوة السلاح.
وروى مسلم عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: “اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ . . . فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ” . . . الحديث .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أمراءه أن يدعو الكفار إلى الإسلام وهم يرفعون السيوف فوق رؤوسهم، فإن أبوا الإسلام دفعوا الجزية وهم أذلة صاغرون، فإن أبوا فما لهم إلا السيف “فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ“.
وقال صلى الله عليه وسلم: “بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ” رواه أحمد. وهو في صحيح الجامع.
وكون السيف والقوة من أسباب انتشار الإسلام، هذا لا يعيب الإسلام، بل هو من مزاياه ومحاسنه أنه يلزم الناس بما فيه نفعهم في الدنيا والآخرة، وكثير من الناس يغلب عليهم السَّفَه وقِلَّة الحكمة والعلم، فلو تُرِك وشأنه لعمي عن الحق، ولانْغَمَس في الشهوات، فشرع الله الجهادَ لرد هؤلاء إلى الحق، وإلى ما فيه نفعهم، ولا شك أن الحكمة تقتضي منع السفيه مما يضره، وحمله على ما فيه نفعه.
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ [أي كنتم أنفع الناس للناس] تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ، حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
وهل يؤتى بالناس في السلاسل من غير جهاد؟!
وهذا مما يُمدح عليه الإسلام ولا يذم، فعلى الانهزاميين (أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين، وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام. نعم، إنه دين السلم والسلام، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله، وإخضاع البشرية كافة لحكم الله، إنه منهج الله وليس منهج عبد من العبيد ولا مذهب مفكر من البشر حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو أن يكون الدين كله لله. إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضاً فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمنا ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر. فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية وإلى جانبه مناهج ومذاهب من صنع البشر فإن الأمر يختلف من أساسه، ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية ويحرر البشر من العبودية للعباد) فقه الدعوة لسيد قطب بتصرف يسير.
وأما ترك الجهاد.. فلا يعبِّر عن آثاره أكثر من الحالة التي يعيشها المسلمون حاليًا أمام أعداء الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سَلَّطَ الله عليكم ذُلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم“. والحديث الآخر المشهور: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت“.
وبالطبع قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌإِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
يعني: أن الله عز وجل توعّد بالعذاب والعقاب مَن ترك الجهاد في سبيله، والمقولة المشهورة: ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذُلوا. نسأل الله العفو والعافية.
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال رحمه الله: وليس العذاب الذي يتهددهم هو عذاب الآخرة فقط، بل عذاب الدنيا والآخرة، عذاب الذلِّ يُصيب القاعدين عن الجهاد، عذاب الحرمان من الخيرات التي يستفيد منها العدو الكافر ويُحرمها أهلها، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الجهاد، ويُقدِّمون على مذابح الذل أضعافَ ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة أضعاف ما كان يتطلبه منها جهاد الأعداء. انتهى كلامه رحمه الله.
ويجدر بنا في هذا المقام أن نوضح المقصود بالجهاد
ونبدأ بذكر أقوال العلماء في تعريف كلمة الجهاد لغةً وشرعًا.
أولا: التعريف اللغوي: يقول ابن منظور: وجاهد العدو مجاهدة وجهادًا = قاتله وجاهد في سبيل الله. والجهاد محاربة الأعداء، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل. اهـ
وقال القسطلاني: والجهاد بكسر الجيم مصدر جاهدت العدو مجاهدة وجهادًا، وهو مُشتق من الجَهد بفتح الجيم، وهو التعب والمشقة لما فيه من ارتكابها، أو من الجُهد بضم الجيم، وهو الطاقة، لأن كل واحد منهما بذل طاقته في دفع صاحبه. اهـ
ثانيًا: التعريف الشرعي: روى أحمد عن عمرو بن عبسة أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الجهاد؟ فأجابه: “أن تقاتل الكُفّار إذا لقيتهم”.
وقد يأتي مصطلح الجهاد في النصوص الشرعية على غير معنى قتال الكفار، لكنه إذا أُطْلِقَ فالمراد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، ولا ينصرف إلى غير قتال الكفار إلا بقرينة.
يقول ابن رشد: وجهاد السيف قتال المشركين على الدين، فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد في سبيل الله إذا أُطْلِق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. اهـ
وكل النصوص التي تدل على فضائل الجهاد فالمراد بها قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، ولا تُحمَل على جهاد النفس كما يزعم البعض، فكل علماء الإسلام من مُحَدِّثين وفقهاء إذا بوَّبُوا في كتبهم للجهاد، فالمراد به جهاد الكفار القتالي لا مجاهدة النفس.
ومن أوضح الأدلة على ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّني على عَمَلٍ يَعْدِلُ الجهاد. قال: “لا أجده”. ثم قال: “هل تستطيع إذا خرج المجاهدُ أن تدخل مسجدَك فتقوم ولا تَفْتُر وتصوم فلا تُفْطِر؟” قال: ومن يستطيع ذلك؟
ودلالة الحديث ظاهرة، فالصيام والقيام من مجاهدة النفس، ومع هذا قال صلى الله عليه وسلم: لا أجد ما يعدل الجهاد.
وقال حسن البنا رحمه الله: شاع بين كثير من المسلمين أن قتال العدو هو الجهاد الأصغر، وأن هناك جهادًا أكبر هو جهاد النفس!! وبعضهم يحاول بهذا أن يصرف الناس عن أهمية القتال والاستعداد له ونيَّة الجهاد والأخذ في سبيله. اهـ
وأما الحديث المشهور “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” فقد نص عامة المُحَدِّثين (كالبيهقي والعراقي والسيوطي والألباني) بأنه لا يصح عن رسول الله، بل فيه راوٍ وهو يحيى بن العلاء مُتَّهَم بالكذب ووضع الحديث.
والخلاصة في هذا الموضوع: إذا كان المقصود بجهاد النفس هو التزام أوامر الله وشرائعه، وأول ذلك تحقيق التوحيد والكفر بالطاغوت والذي يشمل عقيدة الولاء والبراء، فآنذاك يصح أن يُطلَق عليه الجهاد الأكبر، لأنه سيشمل حتما جهاد الكفار ومقاتلتهم.
أما إذا كان المقصود به هو ما ينشره بعض المُنَفِّرين من الجهاد حيث الاكتفاء بعبادات معينة مثل قيام الليل وصيام النهار والحفاظ على الأوراد والأذكار وما أشبه ذلك، فإن اعتبار هذا هو الجهاد الأكبر مغالطة كبيرة لا يدل عليها كتاب ولا سُنَّة، وهو ظاهر في حديث أبي هريرة الذي مضى معنا، ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّث به نفسه مات على شعبة من نفاق”
وعلى هذا المعنى ينتظم كلام ابن القيم في زاد المعاد، والذي ذكر فيه أنَّ مجاهدة النفس في المرتبة الأولى من مراتب الجهاد.
وكنتُ في المقال السابق قد ذكرتُ مراحل تشريع الجهاد، فجاءني سؤال عليه، فحواه: هل المرحلة الأخيرة ناسخة للمراحل السابقة، كما نص أهل التفسير على أن آية التوبة {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} نسخت الآيات التي تأمر بالعفو والصفح؟
وقد خلص العلياني في كتابه أهمية الجهاد إلى أن النسخ هو الصحيح، لكن يبقى للمسلمين فسحة حال العجز اضطرارًا في العمل بنصوص الصبر والعفو، مع وجوب السعي لرفع حالة الاضطرار.
قال ابن تيمية: فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. اهـ
دون أن نصل إلى أن حالة الاضطرار هذه هي الأصل، ونخرج بها عن كونها أمرًا طارئًأ لتستقر وتصبح أمرًا واقعًا.
فأكل الميتة للمضطر {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} جائز، لكنها تبقى في حِسِّ المسلم وشعوره ووجدانه (ميتة) لا يستلذ بها ولا يتجاوز بها حدَّ الضرورة، فضلًا عن أن يتفنن في تصنيع المأكولات الشهية منها!!
يقول الأستاذ سيد قطب –رحمه الله- في ردّه على الذين يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربًا من الجهاد في معناه الشامل:
إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. ولكن هنا ليس معناه أن هذه هي غاية المُنَى؛ وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قُدُمًا في تحسين ظرفها؛ وفي إزالة العوائق من طريقها؛ حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في سورة التوبة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.
فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام؛ فلهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها.. ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية. وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين. وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام! إنه دين السلم والسلام فعلاً، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله، وإدخال البشرية، كافة في السلم كافة. اهـ
والله من وراء القصد
المصدر : البوصلة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن