استهداف الدين لا تصحيح مساره.. عن منهجية بعض الإعلاميين الخاطئة
بدايةً، ينبغي التأكيد على أن هذا الموضوع غرضه الأساسي تنويري في إطار موضوعي، وليس لهجومٍ شخصي أو أي شيء آخر؛ فقد علَّمتنا تجارب كثيرة في السنوات الماضية، أن الهجوم الشخصي، يُضيِّع الحقوق، ويغيِّب الحقائق وسط الضجيج والهتافات وتشويش الغوغاء والدهماء.
كما أن تناول الأمور بموضوعية، وبشكل منطقي وعقلاني، يضمن للرسالة الوصول إلى الآخر، بالذات المُحايد والذي لم يبن منطقه وموقفه بعد.
مبعث الحديث، هو محتوى برنامج "مُختَلَف عليه" الذي يقدمه الصحفي والكاتب المصري إبراهيم عيسى على النسخة العربية لقناة "الحُرَّة" الأمريكية، والتي من المعروف أنها أحد مشروعات الحكومة الأمريكية لاختراق الفضاءات العربية والإسلامية.
وكانت القناة، بالذات نسخها العربية والفارسية، ضمن مشروعات عدة أسست في مطلع الألفية الجديدة؛ لغرض إشاعة الفوضى الفكرية وتكرار التجربة التي جرت مع الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة، وقادت إلى تفكك الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، وإدخال دولها في آتون الفوضى والفقر والصراعات الأهلية.
وهذا كله معروف وموثَّق، والإدارة الأمريكية وقت بوش الابن، سواء البيت الأبيض أو وزارة الخارجية، أعلنت عنه صراحةً عندما أطلقت النسخة الفارسية على وجه الخصوص من هذه القناة وإذاعة "فاردا" الفارسية كذلك، وكلتاهما موجهتان لإيران، وهذا يقدِّم لنا مؤشراً على حقيقة أدوار مثل هذه المنصَّات.
يقدِّم عيسى في برنامجه هذا -سواء بنفسه أو من خلال ضيوف يستضيفهم- مجموعة من المقاربات -التي يعدها جديدة وغير تقليدية في منهجية تناولها للتاريخ الإسلامي- للتدليل على خطأ مقولات ومرتكزات أساسية يتبناها المسلمون، وتشكِّل العمود الفقري لعقيدتهم ولتصوراتهم عن دينهم وعن تاريخهم.
وملخَّص ما يحاوله عيسى في هذا الصدد، هو أنه يكرِّس الاتهامات بالعنف الموجهة إلى المسلمين، ويربطها بالإسلام -تماشياً مع ما يُعرَف باسم الحرب على الإرهاب والتطرف- وهي حرب دولية فعلاً، ستارها مواجهة التشدد والعنف، ولكن باطنها يستهدف الإسلام حرفيّاً.
ولسنا مُغالين عندما نقول ذلك، ومهما قبلنا منطق أن الكثير من الحركات المنتسبة للإسلام أو ترفع لواء المشروع الإسلامي قد ارتكبت أخطاء، إلا أنها في النهاية -الحرب على هذا الدين ومشروعه الحضاري- مستمرة، وكانت سوف تجد لنفسها مبررات لو انتفت هذه الصورة من أخطاء الممارسة.
إن الكثير من الحركات المنتسبة للإسلام أو ترفع لواء المشروع الإسلامي قد ارتكبت أخطاء، إلا أن الحرب على هذا الدين ومشروعه الحضاري مستمرة، وكانت سوف تجد لنفسها مبررات لو انتفت هذه الصورة من أخطاء الممارسة
كما أنه في نقطة أخطاء الممارسة هذه فإن بعض هذه الجماعات -في الأصل- تأسس على يد خصوم هذا الدين وهذه الأمة من أجل تكريس هذه الصورة الذهنية السلبية عن الإسلام كدين عنف ودماء هو وأتباعه.
وهي ذات الرسالة التي نجدها لدى إبراهيم عيسى ومَن نحا نحوه في غالب الحال ولكن بوسائل أخرى، وهي الإعلام، وليس القتل والتفجير، والأمر في حالة الإعلام أخطر بكثير؛ لأن منصة إعلامية واحدة لها انتشار قناة "الحُرَّة"، تفعل فعل ألف عملية إرهابية ترسخ على أنها من صنيعة الجماعات الإسلامية، وأن لها مرتكزاً فقهيّاً وشرعيّاً في الإسلام.
ومن خلال تحليل مضمون لبعض حلقات برنامجه نقف على نقطة مهمة يحاول أن يكسرها في نفوس متابعيه، وفيهم مسلمون لم يتلقوا تعليماً أو ثقافة إسلامية صحيحة، وهو أنه يحاول أن ينزع الصبغة المثالية عن الإسلام لدى معتنقيه، أو في خطابهم.
وهو يركِّز في هذا الصدد على جوهر الدين ممثلاً في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، فلا يمكن بحال القول إن منهجه تصحيحي مثلما يحاول البعض التصدي لكثير من الانحرافات الفقهية أو المفاهيمية الموجودة في مناهج بعض الحركات أو الرموز الإسلامية.
فالذين يتصدون مخلصين لهذه الانحرافات، تكون استدلالاتهم من صميم الدين، ويتبنون خطاباً ينطلق من منطقة الدفاع عن الدين، والسعي إلى تنقيته مما لحق به أو نُسِبَ إليه من شوائب بسبب عوارض السياسة أو ما شابه.
فعلى سبيل المثال، يرتكز إبراهيم عيسى في حلقاته الأحدث من برنامجه هذا يحاول أن يمس بالحديث النبوي الشريف الصحيح، الذي قال فيه الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "خير القرون قرني"، فيركِّز على أحداث الفتنة الكبرى التي وقعت في القرن الأول الهجري، وما شهدته من دماء، للقول –حاشا لله– بأن الخيرية في الإسلام ترتبط بالدماء والظلم والقتل.
فهو يكرر عبارة يقولها هو أو ضيفه في هذا الصدد بعد استعراض وقائع التآمر الذي حدث على عثمان بن عفَّان وعليٍّ بن أبي طالب -رضي اللهُ عنهما-: "وهذا هو الأول الهجري"!
وتتصل بذلك مسألة خطيرة للغاية، وهي الطعن في الصحابة -رضوان اللهِ تعالى عليهم- وهو ما يمس تواتر القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية؛ لأنهم هم من نقلوا وبلَّغوا عن النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بما في ذلك أمورٌ على أكبر قدر من الأهمية، مثل هيئة الصلاة وغير ذلك، وهذا كله هو الإسلام بالمعنى الحرفي للكلمة.
أخطاء منهجية:
في حقيقة الأمر فإن إبراهيم عيسى –بعيداً عن أية تعصُّبات، وبشكل موضوعي بحت– يرتكب في برنامجه هذا مجموعة من الأخطاء المنهجية التي تؤكد في طبيعتها مقارنة مع ما نعلمه عنه بشكل موضوعي؛ أنه يقصدها لأجل نقل صورة معينة سلبية عن الإسلام والمسلمين والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية برمَّتها.
وأهم هذه الأخطاء خلطه بين النظرية والتطبيق؛ فلم يزعُم أحدُ مطلقاً أن المسلمين لا يخطئون، ولا يرتكبون معاصٍ وخطايا لا علاقة لها بالدين، لم يأتِ بهذا أي نصٍّ قرآني أو حديث نبوي شريف.
لم يزعُم أحدُ مطلقاً أن المسلمين لا يخطئون، ولا يرتكبون معاصٍ وخطايا لا علاقة لها بالدين، لم يأتِ بهذا أي نصٍّ قرآني أو حديث نبوي شريف
بل على العكس؛ القرآن الكريم فيه الكثير مما لام فيه رب العزة -سبحانه- على نبيه نفسه -عليه الصلاة والسلام- لأخطاء اجتهادية وقع فيها -إن صح التعبير- ورفع الغطاء الشرعي عن بعض الأفعال النبوية، وقال إنها ما هي من أحكام الإسلام، مثل موضوع فداء الأسرى، بينما نزل القرآن الكريم بخلاف ذلك.. يقول تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67].
وهذا النبي -وكان يأتيه الوحي- فكيف الحال بالمسلمين بعد أن مات صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
إن من بديهية حقيقة التمييز بين ما ارتكبه المسلمون من أخطاء بعد النبي - عليه الصلاة والسَّلام - ومخالفاتهم للشريعة في أمور كثيرة، أنْ قال بعض المؤرخين من الغرب نفسه، إنه "بوفاة محمد انتهى تاريخ الإسلام وبدأ تاريخ المسلمين".
الخطأ الكبير المنهجي الثاني الذي يقع فيه عيسى -وهو منبثق من الخطأ السابق- هو أنه لا يستقصي أو يذكر ما في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف من آيات ومقولات تؤكد وتنكر ما يحاول أن يظهره هو أنه الإسلام.
فهناك الكثير من الأحاديث النبوية الصحيحة، تكلَّم فيها الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن بعض الأمور المستقبلية، ومنها ما تلا وفاته مباشرة؛ فقد قال في خطبة الوداع مثلاً: "لا تعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" [مُتَّفقٌ عليه].
وتناول أحداث الفتنة الكبرى في أحاديث أخرى واضحة، مثلما قال إن عمار بن ياسر -رضي اللهُ عنهما- تقتله الفئة الباغية.
والقرآن الكريم فيه الكثير من الآيات التي تتكلم عن حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهما، وحرمة الدماء والأرواح بشكل عام .. يقول تعالى مثلاً: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
وفي خطبة الوداع خاطب الرسول -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- المسلمين، فقال لهم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلَّغْت" [مُتَّفقٌ عليه].
ولم ينقل إبراهيم عيسى -الذي يتهم الإسلام بأنه دين لا يبني حضارة- عن الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أي قول أنكر فيه عليه الصلاة والسلام سلوكيات البداوة أو الجاهلية التي كان يفعلها أي صحابي من الصحابة الكرام -رضي اللهُ تعالى عنهم- مثل لومه لأبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عندما عيَّر أحد الأشخاص، ويُقال إنه كان بلال بن رباح -رضي الله عنه- بلون أمه الأسود؛ فقال الرسول -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية" [حديث صحيح/ أخرجه البخاري ومسلم].
ولا يرى أي شيء حدث في دولة المدينة، بما في ذلك دستور المواطنة الأول في التاريخ الإنساني، وهو "وثيقة المدينة"، والتي سبقت "الماجنا كارتا" الإنجليزية التي يتباهى بها الغرب.
ونقول إن تجاهل عيسى وغيره لهذه القواعد في البحث - والتي هي من أبسط قواعد المنهجية العلمية - يقول بتعمُّد هذه الفئة فيما تقول وتفعل؛ لأن هذه الأسماء ليست ضعيفة التأهيل العلمي والتعليمي، ولديها من الخبرات والمهارات الكثير الذي بالتأكيد من المفترض أن يقودها إلى استعمال هذه المنهجية التي تقارِن بين الأصل وبين الواقع والتطبيق، وبالتالي فهم هل هذا التطبيق يتفق أم يتناقض مع الأصل.
فالإسلام بالتأكيد ليس هو فِعل المسلمين، بما في ذلك أفعال الصحابة -رضوان اللهِ تعالى عليهم-، الإسلام هو ما جاء به الوحي ونقله إلينا محمد -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وحدده وأوضحه، وأوصى به، وقام به عن عمد، وأشار إليه على أنه من الدين.
لكن المشكلة أن منصات إبراهيم عيسى واسعة الانتشار، منها فقط، قناة "الحُرَّة"، وبالتالي فإن هناك ضرورة للرد على ما يقوله وتقييمه وتفنيده بمنهجية علمية راسخة، وبذات الدرجة من الانتشار؛ لأنه في ظل التشويش الراهن، وانغلاق الكثير من منافذ التعليم والتلقين ذات الطابع الإسلامي سوف نقف أمام مشكلة كبيرة في المستقبل القريب.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة