“منظومة الإخضاع” في السياسة والحكم في مجتمعاتنا العربية
لا يُعد من نافل القول أن تناقش الحركة الإسلامية وتهتم بقضايا الحكم الرشيد، بل إنها من صميم واجباتها هذا الاهتمام، في إطار الجانب المتعلق بالإصلاح والتغيير في العمل الإسلامي.
وببساطة غير مُخِلَّة، فإن الحكم الرشيد يعني منظومة الحكم التي تعلي من قواعد المحاسبة والشفافية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، والتوزيع العادل للثروة والسلطة على أساس قاعدة المواطنة .
وهي من بين أهم المقاييس التي تستند إليها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في تقييم معيار كفاءة الإدارة والحكم في أي بلد، وبالتالي تحديد تصنيفه من جانب الأمم المتحدة في ترتيب الأمم لجهة التطور الحضاري.
ولقد أدركتْ الكثير من الأطراف الإسلامية العاملة في هذا الاتجاه -منذ عقود- ضرورة فهم ديناميات العمل السياسي وكيفية إدارة شؤون الحكم في بلداننا العربية والإسلامية، ومشكلاتها وعوارها، والبرنامج العملي الذي ينبغي تطبيقه لإصلاحها حال وصلت إلى الحكم.
ولعل أهم معالم الصورة التي نجدها في إدارة دولاب الحكم والسياسة في العالم العربي والإسلامي من جانب الأنظمة الحاكمة، هو ما يمكن أن نطلق عليه "منظومة الإخضاع" أو الـ"Subjection system"، التي تُعد المُكَوِّن الأساسي لآليات الإدارة والحكم من جانب هذه الأنظمة.
ونقصد بـ"منظومة الإخضاع" هنا، آلية رباعية الأركان تلجأ إليها أنظمة الحكم الشمولية من أجل تعضيد سلطانها وسيطرتها.
وهنا ثمَّة تمييز يجب أخذه في الاعتبار عند مناقشة أركان هذه المنظومة -والتي من المهم فهمها في إطار الحركة الإصلاحية الساعية إلى التغيير في عالمنا العربي والإسلامي- وهو أن هناك فارقاً بين النظم السلطوية والنظم الشمولية.
فـ"النظام السلطوي" "Authoritarian regime"، هو ذلك النظام الذي تتركز فيه السلطة في يد فرد أو نخبة صغيرة -عسكرية أو مدنية- بينما "النظام الشمولي" "Totalitarian regime"، هو ذلك النظام الذي يسعى للهيمنة على كل شؤون الدولة والمجتمع.
"النظام السلطوي" هو ذلك النظام الذي تتركز فيه السلطة في يد فرد أو نخبة صغيرة -عسكرية أو مدنية- بينما "النظام الشمولي" ، هو ذلك النظام الذي يسعى للهيمنة على كل شؤون الدولة والمجتمع
ويكون ذلك من خلال منظومة شاملة من المؤسسات ذات الوجود "الشامل" أفقيّاً (أي منتشرة في كل مكان من أرجاء الدول) ورأسيّاً (أي في كل المجالات الفنية والنوعية، مثل المؤسسة العسكرية، والبيروقراطية، والمؤسسات ذات الطابع السياسي النوعي التي تحتوي جموع المواطنين).
وهذا التمييز ليس ترفاً فكريّاً أو أكاديميّاً؛ لأن الحركة الاحتجاجية -سواء أكانت مظاهرات أو ثورات شعبية أو انقلاباً عسكريّاً- لا تمس صميم الدولة في الكثير في حالة الأنظمة ذات الطابع السلطوي الفَوْقي.
بينما في حالة الأنظمة الشمولية فإن سعي الحركة الاحتجاجية إلى إسقاط النظام الحاكم يعني إسقاط الدولة ذاتها بالمعنى المؤسسي لمصطلح الدولة ، وقد يقود ذلك إلى تفكيكيها كما في حالات عديدة مما آلت إليه أوضاع الاحتجاجات في دول شرق أوروبا في نهايات الحرب الباردة، بل إن الاتحاد السوفييتي ذاته كان أحد نماذج ذلك، وكما نجد في بعض الدول التي شهدت تضاعيف ما يُعرَف بـ"الربيع العربي"، كما في حالة سوريا واليمن وليبيا.
وأول أركان "منظومة الإخضاع" هذه هو هذه السمة الرئيسة للأنظمة الشمولية، التضخم والتوسُّع الأفقي والرأسي في مختلف مفاصل المجتمع، فتكون الدولة كياناً ضخماً يتحرك بشكل ذاتي، ولا يخضع لهيمنة كاملة من رأس السلطة.
ويعزز ذلك تمتعه بقدر كبير من الاستقلالية المالية، على النحو الذي نجده في مصطلح يعرفه بلدٌ مثل مصر على سبيل المثال، وهو الصناديق الخاصة التي كانت حتى عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، تحت سيطرة لا مركزية للمحليات، من مستوى المحافظة، ومجالس الأحياء، وقوامها الأساسي رسوم الخدمات والتراخيص وغير ذلك.
ولقد فصَّل ذلك نزيه الأيوبي في كتابه "تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط" فقد قدم تشريحاً مُعَمًّقا للبنية المؤسسية في بلدان العالم العربي، وكان من اللافت ما ذكره عن مصر المركزية الكبيرة للمؤسسة العسكرية والمؤسسة البيروقراطية التي تصل إلى كل مكان في الدولة.
الركن الثاني، هو أن هذه النوعية من الأنظمة ذات الطابع الشمولي -وهي تكون استبدادية تطابقاً؛ فلا يُوجد نظامٌ ديمقراطي يعرف التداول السلمي للسلطة من خلال الاقتراع السري المباشر عبر صناديق الانتخابات، ذو طابع شمولي- تعمد إلى إحاطة نفسها بدائرة يمكن أن نصفها بدائرة ما بعد المؤسسية.
أي أنها دائرة أوسع تقع خارج دائرة مؤسسات الدولة، وهي منظومة تشمل فئات مجتمعية بعينها ذات عناصر قوة، مجتمعية أو اقتصادية أو غير ذلك، يربطها النظام برابط مصالح معه ومع الدولة، بشكل يضمن دعمها له، بما يقوِّي من مركزه، ويضمن له الاستمرارية.
ومن بين أبرز النماذج في عالمنا العربي لهذا النمط، هو دولة البعث في سوريا، والتي عمدت منذ تأسيسها إلى تشكيل دائرة من أصحاب المصالح، مثل كبار المُلَّاك الزراعيين والصناعيين والتُّجَّار، تتقاطع مع دوائر أصحاب النفوذ والسلطة الرسمية.
وفي كتابه "التسلطية في سوريا: صراع المجتمع والدولة" للأكاديمي الأمريكي ستيفن هايدمان، يقول المؤلف: "إن هذا الأسلوب الذي يشمل نظاماً فريداً من التعاونيات لا يوجد نظير معادل له في أي بلد عربي آخر، هو الذي كفل -بجانب القمع الوحشي- للنظام السوري البقاء بعد اندلاع (الحرب الأهلية) هناك".
الأداة الثالثة التي تتضمنها "منظومة الإخضاع" هذه، هي القمع الأمني، وهو ما ليس بحاجة إلى شرح، وصار من بدهيات الممارسة السياسية العربية الواضحة بعد اندلاع ثورات "الربيع العربي"؛ فقد وصل "الحل الأمني" مع الشعوب إلى مستوى القصف بالبراميل المتفجرة وتدمير المدن على رؤوس قاطنيها!
أما الأداة الرابعة - وهي لها خصوصيتها في نقطة امتهان إنسانية المواطن - فهي هيمنة الدولة على شؤون الاقتصاد؛ فباستثناء بضعة دول عربية وإسلامية، فإن الاقتصاد الموجَّه الذي تهيمن عليه الدولة وترسم سياساته، هو المنظومة الاقتصادية السائدة؛ لكي تضمن الأنظمة الشمولية الحاكمة بذلك أمرَيْن:
الأمر الأول/ هو الهيمنة على الموارد، بينما مهمة الدولة والأنظمة الحاكمة في الأصل، التوزيع العادل لهذه الموارد على المواطنين الذين هم أصحاب السلطة الأصليين.
وهذا الأمر هو المعادل البسيط للفساد - الذي يعني ببساطة استغلال المنصب العام من أجل تحقيق منافع خاصة - ويقترن في الغالب في العالم العربي والإسلامي بظاهرة أخرى، وهي تزاوج الثروة والسلطة والنفوذ، وكانت أحد أهم أسباب اندلاع الاحتجاجات في كثير من بلدان "الربيع العربي".
أما الأمر الثاني الذي تضمنه هذه الأنظمة من خلال الهيمنة على الاقتصاد والموارد/ هو تطويع الشعوب من خلال السيطرة على أرزاقها وأقواتها، وعلى بطونها.
وامتهان الإنسانية هنا نجده في حالات وصور كثيرة نقلتها لنا وسائل الإعلام ومنصَّات التواصل الاجتماعي لجموع تتسوَّل لقمة العيش من عربة توزيع التموين الحكومية، في مظهر لا يليق بشعوب لها تاريخها وإسهاماتها الحضارية.
امتهان الإنسانية هنا نجده في حالات وصور كثيرة نقلتها لنا وسائل الإعلام ومنصَّات التواصل الاجتماعي لجموع تتسوَّل لقمة العيش من عربة توزيع التموين الحكومية، في مظهر لا يليق بشعوب لها تاريخها وإسهاماتها الحضارية
وهذا نجده مقترناً في التعليم الأكاديمي للسياسة؛ فغالب الحال أن كليات السياسة في جامعاتنا العربية، ترتبط بالاقتصاد، بينما في الغرب -ولأمانة الموضوعية، في بعض دولنا العربية كذلك- ترتبط كليات السياسة بالقانون أو الإدارة، وأهم مدارسها أو نماذجها نجدها في الجامعة البريطانية في لندن، وفي جامعة "ستانفورد" الأمريكية.
فالأصل أن تنضبط الممارسة السياسية والحكم بالقانون، وبقواعد الإدارة الرشيدة، أما ربط السياسة والحكم بالاقتصاد، فإنه لا يعني سوى أن تكون العملية برُمَّتها مقصود بها أن يتعلق "قادة المستقبل" الذين يدرسون في هذه الكليات، أهمية السيطرة على الاقتصاد كأحد أركان الممارسة السياسية.
وفي حقيقة الأمر فإن الحديث عن إصلاح أو تغيير فَوْقي في منظومة الممارسة السياسية وبنية الحكم في العالم العربي والإسلامي، هو ضرب من الوهم وإضاعة الوقت والجهد.
الأصل أن تنضبط الممارسة السياسية والحكم بالقانون، وبقواعد الإدارة الرشيدة، أما ربط السياسة والحكم بالاقتصاد، فإنه لا يعني سوى أن تكون العملية برُمَّتها مقصود بها أن يتعلق "قادة المستقبل" الذين يدرسون في هذه الكليات، أهمية السيطرة على الاقتصاد كأحد أركان الممارسة السياسية
فالأنظمة الشمولية لا تتغير بتغيُّر رؤوسها، ولا تتغير بترديد الشعارات ، وإنما يتطلب الأمر تغييراً جذريّاً في اتجاهات عديدة، أهمها المفاهيم ذاتها المأخوذة عند الشعوب عن "الدولة" وعن "مؤسسات الحكم" وعن "الأنظمة الحاكمة".
فهذه كلها المفترض أنها وظيفية في خدمة الشعب الذي هو -كما تقدَّم- صاحب السلطة الفعلي، وإنما سلطة النظام الحاكم ومؤسساته، إنما هي بالتفويض منه من خلال الأدوات الدستورية مثل الانتخابات والاستفتاءات وغير ذلك.
أما النظرة الحالية لدى الشعوب عن مؤسسات الحكم والأنظمة، فهي لا يمكن أن تنتِج إصلاحاً وتغييراً حقيقيَّيْن؛ لأنها مُبْنِيَّة على أساس مفاهيمي يدعم منظومة الإخضاع هذه ولا يعارضها، ولذلك كانت -أي هذه النظرة- هي السبب الرئيسي وراء فشل الثورات التي قامت في السنوات الأخيرة في بلادنا العربية.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة