لم كانت العرب تصف الشتاء بـ “الفاضح”؟
كتب بواسطة فاطمة زكي
التاريخ:
فى : تحقيقات
1193 مشاهدة
"إنّ الشتاء قد حضر، وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً؛ فإنّ البرد عدو سريعٌ دخوله، بعيدٌ خروجه".. تلك وصيةٌ تُذكر عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يتعاهد رعيته بها إذا حضر الشتاء.
وقال بعض السلف: "البرد عدو الدين"، في إشارة إلى فتور الهمّة والتكاسل، وقال شيخ القراءة والعربية، أحد القرّاء السبعة، أبو عمرو بن العلاء: "إني لأبغض الشتاء لنقص الفروض، وذهاب الحقوق، وزيادة الكلفة على الفقراء".
تلك الأوصاف للشتاء قد تفسّر لنا سبب تسمية العرب قديماً للشتاء بـ"الشتاء الفاضح"!
مزيد من التوضيح لهذا الوصف نفهمه مما قاله الأصمعي: "كانت العرب تسمي الشتاء: الفاضح، وكأنه -والله أعلم- يفضح الفقير، فلا صبرَ له عليه، بخلاف الحر فيصبر عليه".
ومن قول أبو القاسم الزمخشري، وهو من أئمة العلم بالدين والتفسير: "وعادتهم أن يذكروا الشتاء في كل صعب قاس، والصيف وإن تلظى قيظه وحمي صلاؤه وعظم بلاؤه؛ فهو -بالإضافة إلى الشتاء- هوله هيّن على الفقراء؛ لما يلقونه فيه من الترح والبؤس؛ ولهذا قيل لبعضهم: ما أعددت للبرد؟ قال: طول الرعدة، وفظاظة الشدة".
إذاً، فالشتاء الذي يجدر به أن يكون "ربيع المؤمن"، قد يكون ذريعة للبعض فيتكاسلوا عن الطاعات، ومن جانب آخر فهو يكشف حاجة المستورين، ويعطي مؤشراً عن مستوى تكافل أبناء المجتمع الواحد، وهو فرصة لانتشار الأمراض.
جزءٌ من يومه
يقول عميد كلية الدعوة الإسلامية/ الدكتور شكري الطويل: "يقلب الله الليل والنهار، يطيل النهار ليقصر الليل في الصيف، والعكس في الشتاء، إذ يطول الليل ويقصر النهار، لذا جاء في الأثر أن الشتاء ربيع المؤمن، أي أنه فصله الذي يستمتع فيه ويصلح فيه العلاقة مع الله تعالى".
د. شكري الطويل: نحن أمة العطاء، وليس شرطاً أن نتصدق بالكثير، فالله ينظر للصدقة بحال المتصدق، ونبينا أمرنا أن نتقي النار ولو بشق تمرة
ويضيف: "لو لم يستثمر المسلم الشتاء بأن يصلح علاقته بالله، فهو مغبون وخاسر، وفي ذلك دليل على ضعف إيمانه ، فالليل طويل بما يكفي لأن يأخذ قسطا من الراحة ثم يستيقظ للقيام، الذي هو من دأب الصالحين، وفيه منهاة عن الإثم ومكفرة للسيئات ولا يعد عند أهل الإيمان الرجل صالحاً إلا أن يكون له حظاً من القيام، أما النهار فقصير بدرجة تجعل صيامه خفيفاً وسهلاً".
ويتابع: "على الرغم من ذلك، نجد من يتقاعس عن العبادات، كأن لا يصلي جماعة في المسجد كي لا يخرج من بيته في الطقس البارد، فليسأل المسلم نفسه في الشتاء: ألا يذهب إلى عمله؟ بلى، ألا يذهب إلى سوقه، بلى، ألا يذهب لزيارة من يحب؟ بلى".
ويواصل: "كما يفعل كل هذا، فليدرك أن العبادة جزءٌ من يومه أيضاً، وأداؤها لا يختلف باختلاف الطقس".
ويؤكد الطويل: "الشتاء لا يكلّف العناء والمشقة، أضف إلى ذلك أن الإنسان يُثاب على العبادة ثواباً أكبر عندما تكون مع شيء من البرد "، مستدلاً بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصحابته: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟"، قالوا: "بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط" (رواه مسلم).
ويلفت إلى أن الله أعطى المسلمين رخصاً تخفف عنهم برودة الشتاء وتعينهم عليها، كالجمع بين الصلوات والمسح على الجوارب، بالإضافة إلى نعم متعددة ناتجة عن التطور في حياتنا اليوم كسهولة تسخين مياه الوضوء.
هكذا إذا يكون الشتاء فاضحاً فيما يتعلق بالجانب الديني للمسلم، فالشيطان عدو المسلم، يغريه بالراحة والدفء ليبعده عن الله، والتغلب على ذلك يكون بالنية الصادقة في العبادات وأدائها بلا تكاسل، بحسب الطويل.
وجهٌ آخر
ويبين أن الشتاء قد يكون فاضحاً على مستوى علاقة المسلم بالناس، ووقوفه إلى جانب المحتاج ، فمن واجب المسلم أن يتحلى بما جاء في أحاديث نبوية عدة، منها: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" (رواه البخار)، و: "الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (رواه مسلم)، و: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" (رواه مسلم).
ويوضح: "الشتاء، لما فيه من برد، يتطلب من الإنسان أن يحسّن فراشه وغطاءه وملابسه ووسائل التدفئة، ومن الناس من لا يقدر على توفير ذلك لأهله، لذا كان لا بد من التكافل".
ويلفت الطويل إلى أن تقديم العون في الشتاء، يكون حسب الاستطاعة، فمن يمكنه تقديم الدعم المادي عليه أن يوفر لإخوانه المسلمين ما يحتاجون.
ويقول: "نحن أمة العطاء، وليس شرطاً أن نتصدق بالكثير، فالله ينظر للصدقة بحال المتصدق، ونبينا أمرنا أن نتقي النار ولو بشق تمرة".
ويضيف الطويل: "لمن لا يمكنه تقديم شيء، فعليه بالدعاء لإخوانه المحتاجين، فالدعاء في ظهر الغيب مستجاب"، متابعاً: "بعض الفئات قد لا يكون بمقدورنا أن نعينها على برد الشتاء إلا بالدعاء، كالأسرى في سجون الاحتلال، والمرابطين على الثغور".
لو غاب التكافل!
من جانبه، يقول الأخصائي الاجتماعي حسام جبر: إن "فصل الشتاء حدث مناخي ينعكس على الناس بالكثير من الأزمات والتحديات التي تعقّد حياتهم، وتتسبب في ظهور أزمات على مستوى المجتمع".
ويضيف: "البرد القارس الذي يحتاج إلى تدفئة قوية، وغرق بعض البيوت بمياه الأمطار، وغيرها مما اعتدنا أن نراه شتاءً، هي أمور تكشف مستوى تماسك #المجتمع وتكافل أطيافه، فإما أن تظهر حالة إيجابية في هذا السياق، أو تتكشف ثغرات مجتمعية تؤكد لنا أن الشتاء فاضح بالفعل".
ويتابع: "يمكن القول إن الشتاء يلقي بظلاله على البناء الاجتماعي، فإذا برزت قيمة التكافل كانت الظلال إيجابية، وإن غاب التعاون فالعكس ".
ويوضح أن للتكافل العديد من الإيجابيات، من أبرزها أنه يجعل المشاكل همّاً مشتركاً بين أطياف المجتمع التي تتفاعل فيما بينها، فيشعر كل فرد بقيمته، وبأن مجتمعه يقف إلى جانبه في أوقات الشدة، ومن هنا يشعر بالثقة والأمان، وهذا يعني أن #التكافل يساهم في تماسك البناء الاجتماعي ويقلل حالات الصدام الداخلي.
وفي حال غياب التكافل، يبين جبر: "يحدث العكس، فيشعر الفرد بخذلان مجتمعه له، ويفقد ثقته بالناس، فتظهر النزعة الأنانية، ويهتم كل مواطن بمصالحه الشخصية ولو كانت تتعارض مع المصلحة العامة، فيصبح البناء الاجتماعي مهدداً بالتفكك".
ويلفت إلى أن الشتاء ليس فاضحاً على مستوى المجتمع فحسب، وإنما على مستوى الأفراد والأُسر؛ ذلك لأنه يكشف ما يحدث داخل البيوت المستورة، فالمحتاج المتعفف قد تظهر حاجته للناس بسبب هذا الفصل.
ويقول جبر: "هو فاضح أيضاً لمن يستطيع تقديم الخدمة لغيره لكنه لا يفعل، خصوصاً أن تركيبتنا الاجتماعية الفلسطينية فيها تكافل وتفاعل".
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن