الخوف في كل مكان.. هل يُخرج فيروس كورونا أسوأ الأخلاق البشرية؟
كتب بواسطة محمد السعدني
التاريخ:
فى : تحقيقات
917 مشاهدة
شاب في منتصف العشرينيات يركب لعبة قطار الموت بجوار فتاة آسيوية، وحين يأخذ القطار سرعته يصرخ بأعلى صوته: “من الواضح أنني حصلت على الكورونا”، طفل لسيدة أميركية من أصول آسيوية يذهب إلى متجر بغرض الشراء ليطلب منه صاحب المتجر بالخروج لأنه قد يحمل الكورونا، سيدة فرنسية تخنق أخرى آسيوية بكيس من البلاستيك وتطالبها بالنزول من مترو الأنفاق، أطفال مصريون يتجمعون فيما يشبه “الزفة البلدي” لملاحقة فتاة آسيوية والهتاف خلفها “الكورونا اهي.. الكورونا اهي”، صحيفة فرنسية تنشر صورة لسيدة صينية ترتدي كمامة وجه لمقال بعنوان “الإنذار الأصفر”، وهو مصطلح يرجع إلى القرن التاسع عشر والذي يدلل على التمييز ضد وجود الوجوه الآسيوية في المجتمع، طالب صيني يدرس بالجامعة اللبنانية صوّر فيديو يحكي فيه عن ملاحقة اللبنانيين له من أجل شتمه والاعتداء عليه وإلى أي مدى يتألم بسبب ذلك، مراسل قناة “ctv” الكندية يقوم بالتغريد بصورة له مع حلّاق آسيوي ويكتب إلى جانبها “آمل أن يكون كل ما حصلت عليه اليوم قصة شعر فقط”، ويا لخفة ظله! (1)(2)(3)
وفي لندن تعرض شاب من شرق آسيا إلى السرقة واللكم من قِبل مراهقين يصرخون أثناء الاعتداء عليه بكلمة واحدة “فيروس كورونا”، وفي نيويورك قام رجل بالاعتداء على امرأة آسيوية بالسب واصفا إياها “بالعاهرة المريضة”، وفي إيطاليا استقبل أحد المستشفيات رجلا فلبينيا قام مجموعة من الشباب بالبلطجة عليه وضربه بشدة اعتبارا منهم أنه “صيني مصاب”. (4)
بالإضافة إلى مئات البلاغات اليومية التي تشتكي الإساءة والعنصرية تجاه كل مَن بدت ملامحه آسيوية، تقول إحدى الفتيات: “لقد لاحظنا استيقاظا لعنصرية كامنة، كنا نعلم بوجودها في السابق، لكنها الآن واضحة وقوية”، وجاءت أبرز ردود الأفعال عن طريق شاب ذي أصول آسيوية برفقة زملائه عبر تأسيس وسم على تويتر #JeNeSuisPasUnVirus الذي معناه: “أنا لست فيروسا”، وتم تدشينه من أجل تعبير ذوي الملامح الآسيوية من خلاله عن أنفسهم وعن المعاناة والعنصرية التي يتعرضون لها يوما فور الخروج من بيوتهم في كل مكان. (5)
حتى لم ينجُ من وابل الأذى مَن جاء مؤخرا من زيارة له إلى الصين، فلم تكتفِ الحكومة الإندونيسية بالكشف عن رعاياها القادمين من “ووهان الصينية” من أجل الوقاية، ولكن استُقبِلوا عند باب الطائرة بمجموعة من الملثمين ببزات صفراء فاقع لونها من أجل القيام برشّهم بمواد كيماوية تحسبا من البكتيريا أو الفيروسات التي قد كانت تسللت إليهم في مشهد أشبه بـ “حالة طوارئ جيم” بفيلم الكارتون الشهير “شركة المرعبين المحدودة”. (6)
إن ما تُبشر به تلك الأحداث ليس الإفراط في الحذر، بل إنها تشي لنا بواحدة من قصص انهيار الحضارة أمام الأحداث المروعة، وكيف يتحول البشر بين ليلة وضحاها إلى حالة من الفوضى “الهوبزية” نسبة إلى الفيلسوف “توماس هوبز” تحت تأثير رهاب الموت والحرب من أجل البقاء. (7)
ويرى الفيلسوف الألماني “هوبز” أن الإنسان في الحالات التي تفتقر إلى الضوابط وتترجمها العلاقات البشرية في غياب الدولة فإنه يتصرف وفقا لديمومته، وفق قانون حفظ البقاء، حيث يحق له الاستيلاء على الأشياء التي يحتاج إليها بالقوة، وهي حالة الفوضى التي يُطلق “هوبز” عليها “حرب الكل ضد الكل”، فحين يخاف الإنسان من وقوعه ضحية للآخر فإنه يبادر بالاعتداء عليه، وهو ما ينذر بالحياة التي يصفها “هوبز” بأنها “منعزلة، فقيرة، حقيرة، همجية وقصيرة”.
“الشيئان اللذان ليس لهما حدود هما: الكون، وغباء الإنسان”
(فريدريك بيرلس عن أحد علماء الفلك (8))
هل يستدعي الكورونا في الأصل كل هذا الخوف؟
عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، توجّهت أعداد غفيرة من الشعب الأميركي إلى تفضيل السفر بالسيارة أو القطار لتجنُّب مخاطر الطائرات التي بدت بالنسبة إليهم محتملة، وكذلك بعد سلسلة من حوادث الطائرات كتحطم طائرة ألمانية بفرنسا ومقتل 150 شخصا آنذاك، الأمر الذي تعجّبت له العديد من مراكز الأبحاث والإحصاء، فحسب الدراسات الإحصائية الأميركية فإن السفر بالحافلة أو القطار يجعلك عُرضة للموت بخمسة أضعاف السفر على متن الطائرة، أما المسافرون بالسيارة فهم عُرضة للموت بنسبة 72 مرة من السفر جوًّا، ولكن العقل البشري يؤكد في كل مرة بأنه يُخطئ مهارة الحساب. (9)
وحتى الآن فإنه من غير الممكن الوقوف على تقدير دقيق لمخاطر الإصابة بالكورونا، ولكن بعض الباحثين باتوا يعتقدون أن أفضل تخمين لمعدل الوفيات هو موت 9 من كل 1000 شخص، أي نحو 1%، ولكن هذه النسبة يمكن النظر إليها من زاوية ثانية؛ وهي كم عدد الحالات التي انتهت بالموت من بين مَن هم في منتصف العمر؟ بعد استبعاد الطاعنين في السن فسوف تُصبح النسبة في هذه الحالة 8 حالات وفاة من بين كل 4500 شخص حسب تقرير حديث لـ “BBC”، وفي تقرير آخر جاء في منتصف فبراير/شباط للنيويورك تايمز يشير إلى أن تقديرات معدل وفيات فيروس كورونا تعادل 20 ضعفا للإنفلونزا العادية، ولكن يذهب التقرير إلى أنه إذا قمنا بحساب تلك النسبة مرة أخرى باستثناء مقاطعة هوبي الصينية فإن بعض التقديرات تصل إلى 0.16%، أي جنبا إلى جنب مع احتمالية الموت نتيجة الإصابة بالإنفلونزا العادية، ليس هذا فحسب، لكن ثمة زاوية ثالثة وهي أنه ليس كل المصابين بالكورونا أو الإنفلونزا يتم إحصاء حالاتهم، ففي أغلب الحالات يلجأ المصاب بأعراض الإنفلونزا إلى الراحة والرعاية الصحية عدة أيام حتى الشفاء سواء كانت تلك الأعراض إنفلونزا عادية أو كورونا، وهو ما يشير إلى أن النسبة الحقيقية قد تكون أقل من ذلك بكثير. (10) (11)
وبقدر ما دفعت “الكورونا” الأطباء إلى العمل الجاد بحثا عن ترياق أو من أجل الوصول إلى خطوات وقائية محددة، فإنها فتحت الباب للباحثين النفسيين أيضا من أجل دراسة سلوك العقل الجمعي البشري وحالة الهياج التي يقومون بها مدفوعين إليها دون وعي، في محاولة لفهم الاختصارات العقلية لقياس الخطر، التي تلعب الغريزة دورا كبيرا بها. يقول بول سلوفيتش، عالم النفس بجامعة أوريغون: “تلك الأشياء تدق على جميع أوتار الإنسان حساسية للمخاطر. أي إنه عندما يواجه الإنسان خطرا محتملا فإن عقله يقوم بالبحث السريع عن تجارب سابقة مشابهة والاستعانة بجميع ذكريات الإنسان المقلقة لينتج عن ذلك الشعور بأن الخطر كبير، ويفشل العقل في كثير من الأحيان في تحليل تلك المشاعر وتدارك ما إذا كانت معبرة فعلا عما يحدث أم لا”.
وفيما يتعلق بمرض الكورونا يقول الدكتور “بول سلوفيتش”: “أنت لا تسمع عن 98% من الحالات التي تعافت، كما أنك قد تسمع كل عدة شهور عن تحطم إحدى الطائرات ولا تسمع عن عدد الطائرات التي نجت”، ولا يعتبر الأمر محاولة لتبرير الموت، ولكن الإنسان أثبت أنه لا يتمتع باليقظة فيما يتعلق بالرياضيات وبأن ترتيب مخاوفه لا تبدو منطقية مقارنة بترتيب أكثر الأشياء خطورة.
وحين يأتي ذكر الإنفلونزا العادية يقول “سلوفيتش”: “نحن مرهونون بتجاربنا التي خضناها، على قدر ما يمكن لتلك التجربة أن تضللنا، لكنها تجعلنا مرتاحين”، إشارة إلى أن الإنسان بعد أن قام بتجربة الإصابة بالإنفلونزا العادية فإنه أصبح غير مذعور منها على عكس الأمراض التي لم يقم بتجربتها بعد، كذلك فإن العقل البشري مدفوع لأن يخشى المخاطر الجديدة أكثر من المخاطر التي قام بتجربتها حتى مع تفاوت الخطر في حالات كثيرة، وخصوصا حينما يتم اللعب بتوقّعاتنا نتيجة التعرض لآلاف الرسائل اليومية الإعلامية منها والشخصية التي نتلقاها من الأصدقاء حول القلق من الكورونا، في حين أن التركيز المتكرر على أسوأ النتائج قد يُضلِّل قدرتك على قياس المخاطر.(12)
الزمن: 2005، الحدث: إنفلونزا الطيور
العام 2005، العالم هادئ نوعا ما، بعد قليل سيظهر مرض سيتحدث عنه الناس ليل نهار، ليس فقط كونه مرضا يجب الوقاية منه، بل كونه مرضا قد يقضي على نصف سكان الكوكب، المخاطر جسيمة والاطمئنان وقاحة، وعلى القاصي أن يعلم وعلى الداني أن يرفع أكف الضراعة إلى الله ويتوب عما فعل في الدنيا، فالآخرة خلف الباب وسخط الرب علينا قد بلغنا من قِبله.
في هذا الوقت بالتحديد يتحسّس الإنسان ما تبقى لديه إن كان شيئا من العقل فيتخيّر مصادره، يذهب إلى الإعلام فيجد أن الوفيات المحتملة الناجمة عن إنفلونزا الطيور قد تصل حتى 150 مليون قتيل، يشيط العقل جرّاء ذاك الرقم فيتمسك الإنسان بالعقل أكثر ويذهب إلى منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، ولِمَ لا؟ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وبالفعل فإن منظمة الصحة العالمية قد ساقت البشرى واقترحت بأن عدد الوفيات الناجم عن وباء إنفلونزا الطيور لن يتجاوز 7.5 مليون إنسان ولكنه لن يقل عن مليونَيْ إنسان، ولكن “ديفيد نابارو”، منسق الأمم المتحدة لمواجهة فيروس إنفلونزا الطيور آنذاك، قد رفع سقف الرهان مرة أخرى وقال إن الوفيات ستكون ما بين 150 مليون قتيل إلى 5 ملايين قتيل على أقل تقدير.(13)
الآن فقط يسهل توقُّع ما حدث، حسب منظمة الصحة العالمية فقد قُدِّرت أعداد حالات الوفيات المؤكدة نتيجة وباء إنفلونزا الطيور ما بين عامي 2003 وحتى 2014 بنحو 455 حالة من مجموع 861 مصابا، وفي إحصائية أخرى للنوع الثاني من سلالات إنفلونزا الطيور قُدِّرت بـ 616 حالة وفاة من بين 1568 حالة إصابة بشرية وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة. (14) (15)
يبقى الحذر واجبا
بالطبع، لا يُنكر أحد أن الحذر واتخاذ الإجراءات اللازمة أمر عقلاني في مواجهة الفيروس التاجي كورونا، فغسل اليدين بعد لمس الأسطح العامة، وتجنُّب التواصل مع مَن يعانون من نزلات البرد، وارتداء الكمامة في الأماكن المكتظة بالبشر، كلها أمور من الجيد القيام بها لا سيما مع مَن يعانون من اضطرابات الجهاز التنفسي والمرضى وكبار السن، البقاء في المنزل عندما تكون مريضا أيضا من الأشياء الواجب وضعها في الاعتبار، لكن علينا أيضا ألا نسمح للخوف أن يسيطر علينا، فلنتحقّق من مصادر معلوماتنا ولا نُعِر اهتماما للأخبار ذات المصادر المجهولة، وعلينا أن نكون واعين بأننا في فترة تكثر فيها الشائعات، بالتحديد تلك الفوبيا التي من شأنها دفع الناس إلى ارتكاب الحماقات والتصرفات العنصرية والتي أصبحت اليوم معروفة باسم “الكورونوفوبيا”.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة