فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
كتب بواسطة د. تيسير التميمي
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1645 مشاهدة
موسم خير عظيم أقبل علينا ، فقد أظلَّتنا عشرُ ذي الحجة ؛ شريفةٌ أيامها ؛ فضيلةٌ لياليها ، رفع الله سبحانه وتعالى شأنها وأعلى قدرها ، من أدركها وشهدها فاز بنعم الله فيها ، اختصها الله عز وجل بالتكريم :
* أقسم الله سبحانه وتعالى بها تشريفاً لها وبياناً لفضلها ، فالعظيم لا يقسم إلا بعظيم ، قال تعالى { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} الفجر 1-3 ، والليالي العشر عند جمهور المفسرين هي عشر ذي الحجة ، و” الوتر” عندهم هو يوم عرفة لأنه التاسع ، و” الشفع ” هو يوم النحر لأنه العاشر ، وهذان اليومان أفضل الأيام العشر .
* وقال الله سبحانه فيها { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } الحج 28 ، وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة ، ففضلها معلوم لأنها موسم لركن الإسلام وفريضة الحج وشعائرها المعلومة .
* ووصفها صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل الأيام وأن العبادة فيها أعظم أجراً من غيرها ، فقال فيها { ما من الأيام أيامٌ العمل فيها أفضل من هذه الأيام ، قيل ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله ؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء منه } رواه البخاري . لذا كانت حقيقة بأن نهتم بها أكثر من غيرها ، وأن نحرص على اغتنامها واستثمار لحظاتها في الخيرات والأعمال الصالحات .
* فيها أيام عظيمة من أيام الله تعالى هي : يوم التَّرْوِيَةِ وهو ثامنها ، وفيه ينطلق الحجاج جميعاً إلى مِنى لِيُصَلُّوا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يبيتون فيها ، وهذا من سنن الحج ، روى مسلم رحمه الله أن الصحابة رضي الله عنهم لما حجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم { لما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة } ، ويوم عرفة وهو تاسعها ، وهو يوم الحج الأكبر ويوم خطبة الوداع ، ويستحب لغير الحاجّ صيامه قال صلى الله عليه وسلم { صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده } رواه مسلم ، ولعلّ الله سبحانه أيضاً أن يعصمه من الذنوب ، ويوم النحر عاشرها مكافأة من الله للحجيج وابتهاجاً بأدائهم ركن الإسلام وفرضه ، فكان للأمة عيداً يتقربون فيه إلى الله بالأضاحي ، ويستحب للمضحي ألاَّ يزيل شيئاً من شعره ولا شيئاً من أظفاره أول ذي الحجة حتى الفراغ من ذبحها تشبهاً بالحجاج في إحرامهم ؛ قال صلى الله عليه وسلم { إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره } رواه مسلم .
* وشرع الله تعالى فيها من الطاعات والقربات ما لم يشرع في غيرها ، فاجتمعت فيها دون غيرها عبادات عظيمة وشعائر جليلة هي الصلاة والصيام والصدقة والحج والنحر والذكر بكل صوره :
1- أداء الحج والعمرة ، وهما من أفضل العبادات في هذه العشر المباركة ، فمن بلَّغه الله سبحانه وتعالى تلك الديار المقدسة فقد اجتمع له شرف الزمان وشرف المكان وأفضليتهما ، فلْيجتهدْ ما استطاع بأداء شعائرهما على الوجه الأكمل ، ولْيحرصْ فيهما على موافقة الهَدْيِ النبوي فهذا هو الحج المبرور الذي لم يخالطه إثم أو لغو أو فسق أو رفث ، فإنْ هو فعل ذلك فجزاؤه الجنة ؛ لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم { العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } رواه البخاري ، فالحج الأكبر هو ركن الإسلام وفريضته ، وهو من أعظم العبادات والقربات المأجورة عند الله عز وجل ، قال تعالى { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } الحج 27 ، وأما العمرة فهي الحج الأصغر لأنها تشبه الحج في بعض أعماله ، وتُعَرَّف العمرة بأنها زيارة بيت الله الحرام محرماً وتَعَبُّدُ الله بالطواف والسعي والحلق أو التقصير ، وهي سنة مؤكدة ، وفي فضلها قال صلّى الله عليه وسلّم { أديموا الحجّ والعمرة فإنّهما ينفيان الفقر والذّنوب كما ينفي الكيرُ خبث الحديد } رواه الترمذي .
2- صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها ، قال صلى الله عليه وسلم { ما من أيام أحب إلى الله أن يُتعبد له فيها من عشر ذي الحجة ، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر } رواه الترمذي . والصيام ذاته أصلاً من أفضل العبادات والأعمال الصالحة المقربة إلى الله ، فهو مما اصطفاه لنفسه منها وأضافه إليه ، وما ذاك إلاَّ لعظم شأنه وعلو قدره ، فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث القدسي { كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به } رواه البخاري ، والصوم جُنَّةٌ من غضب الله تعالى ووقاية للنفس من النار وعذابها .
3- الإكثار من الذكر في سائر هذه الأيام لقوله سبحانه وتعالى عن الحُجّاج { لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ … } الحج 28 ، وقد استحب العلماء الذكر فيها بكل ما تيسر من أنواعه كالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح والدعاء والاستغفار ، لقوله صلى الله عليه وسلم { ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد } رواه أحمد ، وروى البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما استهداء بقوله تعالى { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } البقرة 185 .
4- التوبة إلى الله تعالى والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب والاستغفار منها ، حتى يترتب على الأعمال المغفرة والرحمة ، فالمعاصي تباعد بيننا وبين ربنا ، وتغضبه علينا ، قال تعالى { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } النور31 ، فالتوبة من السيئات وإتْباعُها بالحسنات يمحوها من صحائف الأعمال ، وهذا هو الفلاح الحقيقي في الدنيا والآخرة ، قال عز وجل { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } هود 114 ، فعلينا استقبال الأيام والشهور الفضيلة بالتوبة الصادقة والعزم الأكيد على الرجوع إلى الله .
5- الإكثار في هذه الأيام المباركات من الأعمال الصالحة الكثيرة والعبادات سواء الفرائض والنوافل ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال { وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } رواه البخاري ، فقد فتح الله فيها وفي غيرها أيضاً لعباده أبواباً كثيرة للخير :
* فتجب في هذه الأيام وغيرها المحافظة على الصلوات المفروضة والجماعات في أوقاتها ، فالصلاة عمود الدين وركنه ، ويستحب الإكثار من نوافل الصلاة وسننها في هذه الأيام فإنها من أفضل القربات إلى الله ، قال صلى الله عليه وسلم في أجر الصلاة { إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، وإن انتقص من فريضة قال الرب : انظروا هل لعبدى من تطوع ؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك } رواه الترمذي .
* ومن لم يؤد زكاة ماله لهذا العام فليؤدها في هذه العشرة الأيام المباركة ، ويستحب له أيضاً أن يكثر من الصدقات التطوعية فيها ، فالصدقة تمحو نار الذنوب والآثام وتطهر النفوس وتبارك في الأموال ، قال تعالى { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} البقرة 276 ، وقال صلى الله عليه وسلم { والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار } رواه الترمذي .
* وتستحب مناجاة الله سبحانه بتلاوة كتابه وتدبر آياته ، فالقرآن الكريم متعبد بتلاوته في كل وقت وحين ، فالصلاة لا تصح إلا به سواء في ذلك الفريضة والنافلة ، وتلاوته خارج الصلاة عبادة عظيمة الأجر على الحرف الواحد ، قال صلى الله عليه وسلم { من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف } رواه الترمذي .
* والدعاء هو توجه القلب والعقل والروح والضمير إلى الباري عز وجل بالرجاء والطلب والسؤال ، وينبغي أن يدوم هذا التوجه العمر كله في الليل والنهار في الشدة والرخاء ، قال صلى الله عليه وسم { من سره أن يستجيب الله عز وجل له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء } رواه الترمذي ، وهو أيضاً مخ العبادة وجوهرها الحقيقي ومزيد اقتراب من الله السميع المجيب ، قال تبارك وتعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ } البقرة 186 .
* وهذه الأيام فرصة سانحة لصلة الرحم وذوي القربى ، فهي عنوان الأخوّة والتماسك في مجتمع الإيمان ، والصلة تقتضي الإحسان إليهم والعفو عن أساءتهم . وتتحقق بالزيارة والمعاونة وقضاء الحوائج وحتى بالسلام ، وتكون كذلك ببذل المال إن كان مقتدراً ، قال صلى الله عليه وسلم { الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة } رواه الترمذي
وهناك أعمال خير كثيرة لا تعد ولا تحصى يمكننا أن نملأ بها هذه الأيام حرصاً على رضا الله وعلى نفع الأمة والمجتمع والأهل وذوي القربى ، فكفالة اليتيم وقضاء حوائج الفقير ورعاية المسكين والسعي على الأرامل وغيرهم ينابيع للخير لا تجف ومعين لا ينضُب .
فلْنستقبل شهر ذي الحجة المحرم وعشره الأوائل بما يتيسر لنا من هذه العبادات وغيرها وما نطيق من الطاعات والنوافل ، ولْنحرص على زيادة رصيدنا من الحسنات ، ولْنُثْقِلْ ميزان أعمالنا بالصالحات ، ولْنسارع في الخيرات.
المصدر : الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!