كيف كشفت كورونا عوراتنا النفسية؟!
كتب بواسطة أحمد التلاوي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
916 مشاهدة
تعدَّدَتْ الزوايا التي تناولت بها الإنسانية ومساقاتها المختلفة -الإعلامية والسياسية والعلمية- أزمة وباء "كوفيد - 19"، سواء لجهة دراسة الفيروس المُسبِّب له، كورونا المُسْتَجد، وكيفية انتقاله، أو لجهة آثاره على المجتمعات والاقتصاد، ولو في المجال السياسي، فقد ترتَّب على أزمة الوباء، أزمات سياسية في دولٍ ثبت أنَّ حكوماتها قصَّرت كثيرًا لجهة احتواء انتشاره، أو غياب أية رؤية مستقبلية لها بشأن أزمات مماثلة.
إلا أنَّه في غالب الحال، نجد أنَّ الدراسات والمقالات، والأبحاث التي تجرى في المجال الاجتماعي، تكون في الإطار العام، الذي يُعنى بالظاهرة في سياقاتها العامة، فنجد عبارات على غرار "الاقتصاد العالمي".. "الإنسانية التي تضررت".. "مشكلات المجتمعات والأُسَر".. إلى غير ذلك مِن صياغات العموم.
بالإضافة إلى الخطاب الذي يوجه على درجة من التخصيص للأسرة أو الفرد، فإنَّه ظلَّ في عموم الخطاب، واقترابًا من جانب مراكز الأبحاث والمتخصصين، ولكنَّه لم يتحوَّل إلى أنْ يصبح مجالاً للاهتمام الشخصي من جانب الأسر والأفراد أنفسهم.
فلا نكاد نجد من حولنا أولياء أمور أو مُرَبِّين يبحثون على المستوى الشخصي للكثير من الظواهر السلبية المهمة في الواقع في المجال التربوي والسلوكي، وبحث بعض الأشياء التي أبرزتها أزمة الوباء، وخصوصًا فيما يتعلق بما كشفته عنه العزلة من طبائع وسلوكيات.
ونقول هنا كلمة "كشفته" ولا نقول "أفرزته" أو "أدَّت إليه"، لأنَّ ما نهتم به في هذا الموضِع من الحديث، قضية الأمراض الأخلاقية والسلوكيات الخاطئة التي كانت كامنة لدى الكثير من الناس، ولكنها كانت مستترة لأنَّه لم تكن هناك ظروفٌ تبرزها.
وهذا للأسف من أخطر وأسوأ الأمور في حياتنا، بالذات لو كان الإنسان على دراية بهذه الطبائع، ويخفيها لأسباب اجتماعية تتعلق بالتظاهر أو ما شابه، فهي تدخل في هذا الإطار، في باب خديعة الناس والنفس، والنفاق الذي حدده القرآن الكريم بأسوأ ما يمكن أنْ يصلَ إليه الإنسان من مراتب انحراف سلوكي وعقدي.
ولعل الكثيرين قد أصيبوا بصدماتٍ نفسية عندما رأوا المشاهد الشهيرة التي نراها في كل كارثة أو أزمةٍ مفاجئة تحدث في البلدان والمجتمعات التي هي من المفترض الأكثر تعليمًا وارتقاءً في ميدان المنظومات الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية، ويتهموننا بأنَّنا نحن –العرب والمسلمين– شعوبٌ متوحِّشة متخلِّفة وما إلى ذلك، فقد رأينا القوة البدنية فقط –معيار التفوُّق لدى إنسان الغاب والكهف- هي الفيصل بين قدرتك أو عدم قدرتك على الحصول على مستلزماتك من المتاجر والصيدليات!
رأينا سلوكيات غاية في الأنانية، وأبعَد ما تكون لن نقول عن الرُّقي الحضاري والإنساني، بل عن أدنى معايير مفهوم الإنسانية، مع اقترانٍ بالعنف ولو على حساب حياة الآخرين، فيتطلب الأمر في كلِّ أزمةٍ من هذه الأزمات –أعاصير أو حرائق الغابات والمُدن، بالإضافة إلى الأوبئة مثل كوفيد 19– نزول قوات الجيش لحفظ الأمن!
كيف وصل الإنسان إلى ذلك؟
في الحقيقة، فإنّ الإجابة عن هذا التساؤل هو من الأهمية بمكان؛ لأنَّه يمسَّ أشياء كثيرة مهمة في استقرار المجتمعات، والتي تبدأ بتربية الفرد، وتصل بنا حتى مستوى قضية التضامن العام داخل المجتمع الواحد، والتي هي ضمانة أكيدة لإنقاذه في الأزمات الكبرى التي تهدد وجوده.
وهذا الأمر ليس من قبيل المبالغة، وليس مبدأً أخلاقيًّا، وإنما أثبت علماء الاجتماع والعمران من خلال نماذج وتجارب حالة تاريخية قديمة وحديثة، بدءًا من الدولة الرومانية القديمة، وحتى الدول التي تعرضت إلى الاجتياح النازي في الحرب العالمية الثانية، أنَّه مِن أهم عوامل بقاء الأمم والمجتمعات بالفعل كما تقدَّم.
فهذا الأمر يرتبط بالإعلاء من روح الجماعة التي تُوَحِّد المجتمع، وتحفظ عليه تماسكه في أسوأ لحظاته، وتقيه مِن أنْ يقع في قبضة الأنانية الفردية، التي تُعلي من شأن مصلحة الفرد على حساب مصلحة الجماعة.
فلو أنَّ الأنانية سادتْ، لتفتَّتت الثروات، وصارت أجزاء صغيرة لا تنفع سوى أصحابها، بينما أهم عنصر مِن عناصر تطوُّر المجتمعات والأمم، هو التراكم والتجميع الذي يضمن أن تتحول الثروات إلى مبدأ الكل الذي هو أكبر من مجموع أجزائه ، فيظلَّ الترس ترسًا، ولا يتحوَّل أبدًا إلى آلةٍ مفيدةٍ قادرةٍ على العمل والإنتاج.
كما أنَّ الأنانية الفردية إذا ما سادت، فإنَّها تعني حبس الثروات الموجودة لدى أصحابها، بينما يضيع الضعفاء والمحتاجون، وقد يموتون، بينما هناك ما يمكن أنْ ينقذ حياتهم لدى أصحاب الثروات، ولكن هؤلاء أنانيون، لا يمدُّون إلى غيرهم يد المساعدة.
الأنانية الفردية إذا ما سادت، فإنَّها تعني حبس الثروات الموجودة لدى أصحابها، بينما يضيع الضعفاء والمحتاجون، وقد يموتون، بينما هناك ما يمكن أنْ ينقذ حياتهم لدى أصحاب الثروات، ولكن هؤلاء أنانيون، لا يمدُّون إلى غيرهم يد المساعدة
نقول إنَّ هناك عوامل عديدة أوصلت الإنسان إلى هذا المستوى، من بينها سيادة نموذج الحضارة الغربية الذي يُعلي من قيم المادة ومبدأ النفعية والفردانية على حساب ما عداها من قيم إنسانيةٍ أخرى.
وهذه الأمر لم يقف عند حَدِّ الجوانب الاقتصادية أو السلوك الجمعي المجتمعي، وإنما انساح إلى مستوى التربية بالمفهوم المتَّبع في المدرسة والأسرة، فيكشف هذا السلوك عن وجود قصور كبير في البرامج المعتمدة في المحاضن التعليمية، وأنها تغفِل الكثير من الجوانب السلوكية والتربوية، وبالتالي، فإنَّها أصبحت –هذه المشكلات– قائمة في مفاهيم الأسرة عند تربية الأطفال، حيث المحاضن التعليمية هي الجذر والأساس الذي تستند إليه المنظومة التربوية في المجتمع بالكامل، ولو في المحاضن والمنصَّات الأخرى.
وللأسف الشديد، فإنَّ مرض الأنانية هذا، قد انتقل إلى مجتمعاتنا العربية والمسلمة، بعد عقودٍ طويلة من الغزو الفكري والثقافي، وهيمنة الحضارة الغربية بقيمها المُشار إليها، وباتت الفردانية هي أساس حياة قطاعٍ عريض من الأجيال الأحدث في مجتمعاتنا، وصارت المصلحة الفردية هي معيار تقييم أي فعلٍ أو سلوك.
وفي حقيقة الأمر، فإنَّ السلوك الوعظي بات لا يكفي في مواجهة هذه الآفة، فالأمر –كأية ظاهرة اجتماعية– متشابك في علاقة تأثير وتأثُّر متبادَلة مع المنظومات الأخرى، مثل الإعلام والثقافة، وصولاً إلى النمط العام الذي يرسِّخه النظام السياسي الحاكم، للقيم والمفاهيم داخل المجتمع.
وعلى شيوعه واتساعه، في مقابل غياب نموذج متكامل، قوي وجاذب يستعيدنا إلى جادتنا القديمة وهويتنا وقيمنا، فإنّه – بالتالي – الأمر أكبر مِن أنْ نقول إنه بيد الدعاة والتربويين فحسب، ولكن على الأقل، فإنَّ الخطوة الأولى، هي – حتمًا – يجب أنْ تكون من عندهم!
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة