الرحـمَةُ المُهداُة للعَالمين
كتب بواسطة الدكتور عبد المجيد البيانوني
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1041 مشاهدة
{وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] .
حيرة وقلق .. وفتن هوجاء ، وظلم وفساد .. في كلّ أرض ، وتحت كلّ سماء ..
وأمم من البشر كالقطعان ، تهيم في الظلام ، تقدّس الأوهام ، يقتلها الركام .. والكون حيث كان في حيرة ولهان ..
أيُعقلُ أن يستبدّ الشيطانُ بالأرض ، ويَنثرُ الشرّ والفساد حيث شاء .؟!
أيُعقلُ أن يعيشَ الكونُ كلّه تحتَ وطأة الجهل ، وفي بحار الظلمات .؟!
أيُعقلُ أن تُطمَسَ أنوارُ المَعرفة الإلهيّة من قلب الإنسان إلى الأبد ! ويتلاشى نورُ الإيمان واليقين ، ويَنمحي الحقُّ وآثارُه ، فلا تجدُ إلاّ حجراً يقدّس حجراً ، ولا صنماً إلاّ يَهيمُ في هوى صنمٍ .؟
أيُعقلُ أن يُصبحَ الإنسان وحده أسير شهوته ، مستعبداً للظلم والفساد ، والشرِّ والخرابِ ، والوهم والخرافة .؟! يلهثُ وراءَ نوازف الدماء ، ويَلعقُ الجراح ، لا يشبعُ .. ولا يَرتوي .؟! وسائر الوجود من حوله يسبّح بحمد ربّه ، ويقدّس له ..
أيُعقلُ أن تكونَ فلسفةُ العبث ، وغيبةُ المَسئوليّة ، ونزوةُ الشهوة ، هي العُملة الرائجة ، والبضاعةُ المَرغوبةُ ، والغايةُ الكبرى ، تَرفعُ رأسَها ، وتُعلي في الأرض الباطل ، وتعلن صوتها .؟! وتستعبد البشر حتّى الموت .؟! ولا يقف في وجهها أحد .؟!
أيُعقلُ أن يكونَ هذا الوجودُ الجميلُ ، البديعُ الحكيم ، في كلّ كيانه وشئونه : بإنسانه وحيوانه ، بأرضه وسمائه ، وشمسه وقمره ، وأنهاره وأشجاره ، وجباله وبحاره ، وسائر خلقه .. مَرتعاً للظلام ، وخادماً لعَبث الظالم ، وسِلاحاً لسحق المَظلوم .؟!
أيُعقلُ أن يُصبحَ الإنسانُ أتفهَ شيء في الوجود ، بما آل إليه أمره ؛ من تقديس الشهوات ، والعبوديّة للظلم والظلمات .. وهو سيّد الوجود بما حباه الله من خصائص ومواهب .؟!
أيُعقلُ أن تُصبحَ الحياةُ مَكروهةً حتّى من عابديها ، مَذمُومةً حتّى من مُزيّنيها .؟! يَملُّ الإنسانُ وُجودَه ، ويجهلُ مصيره .؟!
أيُعقلُ أن تُزيّنَ سَماءُ الأرض بمَصابيحها ، ولا تُزيّنَ سَماءُ المَعرفة بشمسِها وكواكبها ، ونُجومها وأقمارها .؟! وأن يُقفرَ القلبُ من سَيّده ومالكه ، وساكنه ومسيّره .؟!
يا ربّ قد ضاعَت مَعالم الحقّ ، والتبسَت السبلُ ، وعمّ الشرُّ وطمَّ .. وأرغى الباطل وأزبد ..
الكونُ كلّه يَبحثُ عن النور .. ويَتطلّع إلى النور .. ويسعى إلى النور .. ويَنتظرُ النورَ ، وقد نفد صبرُه .. فهل يُعقلُ أن يَضنّ عطاءُ الله عليه ، فلا يجد أشواقَه العليا ، التي هي قبس من عطاء الله وفضله ، بعد صدق الأمل ، وطول الانتظار .؟!
ها هي أعطاف الأرض تهتزّ شَوقاً لانبلاج النور .. وأرجاءُ السماء تَضجُّ بالتسبيح والرجاء ، أن تأذنَ العِنايةُ الإلهيّةُ بقُدوم الفَجر الصادق مِن وراء زئير العَتَمات ، وأزمةِ الهرج والمَرج ، وتِيهِ الجهالات ..
والإنسانُ .. وَيحَ الإنسان .! إنّه وحدَه سَادرٌ في جهالاته ، غارق في أوحاله ، سَكرانُ مِن كئوس غيّه وبغيه ..
اللهمّ إلاّ بقيّة من أهل كتاب ، بَينَ أيديهم بقيّةٌ مِن حقائق مُغيّبة ، مختلطةٍ بشَتّى الأكاذيب ، وأخبار مُضطربة ، تُمنّي بها نفسَها ، في خِضمّ هذا البحر اللجّيّ من الفَسَاد العَريض ..
وبقيّةٌ أخرى قليلةٌ قليلة .. مِمّن لا يَزالُ نُور الفِطرة يُضيءُ جَنباتِ نفسه ، فيَميز بَينَ الحقّ والباطل ، ولكنّه لا يَستطيعُ أن يَكتشفَ شيئاً مِن مَعالم الحقّ مِن بَين رُكام الأباطيل ..
وأمّةُ الجزيرة العَربيّة ، بأهلِها ورجالِها ، ومَكّةَ أمِّ القُرى وسَراتِها ، غافيةٌ غَريرة ، مُنطويةٌ على نفسِها ، عاكفةٌ على تُرّهاتِ أصنامِها ، وأوهامِ أمجادها ، لا تَدري ما تُخبّئ لها الأيّامُ .. ولكنّها كانَت يُعدُّها القدر .. لتَصنَعَ القَدر ..
قَد هَبّت الأصنامُ مِن بَعدِ البِلى * * * واستَيقَظَت مِن قَبل نَفخ الصور
والكعبةُ العُليا تَوارَى أهلُها * * * فَكأنهّم مَوتى بغَير شُعُور
وقَوافلُ الصحراء ضَلّ حُداتُها * * * وغَدَت مَنازلُـها ظِلالَ قُبور
كلّ الوجودِ له انتظارٌ للهُدَى * * * يا رَبّ .!! أنقِذه مِنَ الديجور
يا ربّ ! يا مَن أضأتَ هذا الوجُود باسمِكَ الحيّ القيّوم .. أرسِل إليه سَحائِبَ رحماتك ونسَائِمَ بركاتِكَ ، باسمِكَ الرحمن الرحيم ، يا عزيز يا قُدُّوس .! أنِر جَنباتِه بنُورك الذي لا يخبُو ، وتجلّ عليه بحكمتِكَ العُظمى ، وأسرار أسمائِكَ الحُسنى .. ومُنّ عليه بمَن أعدَدتَه لحمل نُوركَ المُبين .. بعبدك المُصطفى المُختار ، بمَن يَعبُدُكَ وحدَكَ ، ويُقدّسُكَ وحدَكَ ، وَيَرجُوكَ وحدَكَ .. بمَن لا يَنحني بجبهَتِه إلاّ إليكَ .. بمَن يهدي إلى صراطك المستقيم ، ويحملُ رسَالةَ الحياةِ الطيّبة ، ويَصنَعُ على عينكَ ، وباسمِكَ الحقّ أمّةَ النور والهُدَى ..
يا ربّ يا رحمن ! الكونُ كلّه يجأرُ إليك بالدعاء : " يا ربّ ! إنّ المُؤمنين قد انتَثرُوا ، وكادَ المُخلصون أن يَندَثِرُوا ، ولم تَعُد هذه الأرضُ تَرى حَداةَ القَوافل ، ولا المُتعبِّدينَ لك في المَنازل .. أعِدِ الطيورَ المُغرّدة إلى أغصان الصنُوبر ، فقَد فرّت مِن رَوضها ، وهي تنتظر البلبل الذي يحمل في قلبه ضَجّةَ القِيامة وهَول المَحشَر .. أعِدِ الأوراقَ الذابلةَ إلى رَوضِها الأخضر ، وجَدّد في الإنسانيّة ظَمأَها إلى حِياض المَحشر .. " .
وُلد الهُدَى وتَوالَتِ الآلاءُ * * * وتَزَيّنَت بجمَاله الأسماءُ
وتَسَربَلَ الطاغُوتُ في كهف الردَى * * * وتَدثّرَت بغَبائها الظلمَاء
والنورُ يَسطعُ غامِراً مُتَلألأً * * * والحقُّ أبلَجُ ظاهِرٌ وضّاءُ
وأشرقَتِ الأرضُ بنُور رَبّها .. وتلألأت جَنباتُ الأرض بانبِعاثِ نُور الوحي إليها من جديد .. وجُنّدَت كتائبُ المَلائكة الكرام ، جُنُوداً مُجنّدة ، لتحرُسَ النبيَّ الخاتَمَ ، صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم ، وتَكونَ في ركابه ، وخِدمةِ دينِه ودَعوتِه .. ليس في حياته فحسب ، بل إلى ما شاء الله وقدّر .. {وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4] .. {وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:7] ..
لمّا أطلّ محمدٌ زكتِ الرُّبَى * * * واخضَرّ في البُستانِ كلُّ هَشيمِ
وأذاعَتِ الفِردَوسُ مَكنُونَ الشذَى * * * فإذا الوَرَى في نُضرة ونَعيمِ
لقد فتحَ اللهُ للعَالمينَ ، ببعثةِ محمّدٍ صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم رحمةً لا مُمسِكَ لها ، ونشرَ نُوراً لا يُطفأُ ، ولا يخبُو .. وعمّهُم بخَير لا رَادّ له .. ولن يَستطيعَ أحدٌ كائناً مَن كانَ أن يَقِفَ في وَجهِ هذا الخيرِ أو يَصدَّه ، أو يَسُدَّ مَنافِذَه .. لأنّه أمرُ اللهِ جَلّ وعَلا وقدرُه ..
فهَل يُحسّ الناسُ كلّ الناس بهَذه الرحمة ، ويشعُرونَ بها ، ويَعترفُونَ بفَضلِها ، ويَتنسّمُون أنسَامَها الرخيّةَ النديّةَ .؟ إنّ المُؤمنين السعَداءَ هُم الذين يَعيشُونَ فيها ، ويَنعمُون بظلالها ، ويَلمَسُون في حياتهم وعلاقاتهم بَركاتِها .. وغَيرُهم ينالُه قِسطٌ منها في الدنيا ، إذ تَكُونُ أماناً له مِن عذاب الله العَاجل ، أو انتقاص شَيء من حقّه ، ثمّ تكون عليه حجّة في الآخرة ، لأنّه كفرَ نعمة الله تعالى عليه ، ولم يشكرها ..
ألا إنّ العَقلَ الذي حمله رسُولُ الله صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم ، وسِعَ به العُقولَ ، والقَلبَ الذي مَلكَه مَلَكَ به القُلُوبَ ، والروحَ التي خَفقَت بَينَ جَوانحِه في هذا العَالم هفَت إليها الأرواحُ من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، وعشقتها المَشاعر ، وتَرامَت بَينَ يَديها هامَات العُظماءِ والكُبراء ، تتقرّب إلى الله تعالى بحبّه ، والحرص على الحظوة عنده ..
فطُوبى للإنسانيّة كلّها بهذا الرسول الإنسان صَلّى اللهُ عَليه وسَلّم ، الرحمة المُهداة للعالمين .. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ ... } [الفتح:28ــ29] . وكتبه : عبد المَجيد البيانوني
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة