باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
'المؤثرون' في الميزان
تشكل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم عالمًا قائمًا بذاته، انتشارًا وتأثيرًا واتساعًا، وقد أسمهت بالكثير من الإنجازات في حقول السياسية والتواصل ونقل المعلومة وغيرها، وقد أفادتني على المستوى الشخصي بالكثير الكثير من العلاقات الطيبة والفوائد الباذخة من رحم الصدور والسطور. ولكنها على الجانب الآخر أسهمت في ترسيخ سلبيات عديدة، كان لها آثار في نمط حياتنا واستهلاكنا، وفي تسطيح ثقافتنا وغيرها.
وفي سياق السلبيات، أتناول في هذه التدوينة فئة طفت مؤخرًا على سطح هذه المنصات، عرفوا بـ"المؤثرين"، وهم مستخدمون استطاعوا الحصول على أعدادٍ كبيرة من المتابعين، نتيجة تقديمهم "محتوى" عبر هذه المنابر الافتراضية، فأصبحوا بين ليلة وضحاها من "المؤثرين"، وهو لقب لا يتصل بأي شكل بنوعية المضمون الذي يقدمونه، ولا بأثره وفائدته، فالعامل الأهم في صناعة "مشاهير السوشيال ميديا" هو حجم المتابعين وأعدادهم ليس إلا، وقدرة هذا "المؤثر" على البقاء في "الترند" أطول فترة ممكنة، وفي هذه السطور نقاط عدة ونظرات حول بعض سلوكياتهم وتفاعلاتهم، استفدت بعضها من منشورات لأصدقاء على وسائل التواصل، وقلبت بعضها الآخر بين جنبي نفسي، أرجو أن تكون ذات فائدة.
وسائل إعلامية كبرى وإشهار المشاهير
يجول بخاطري منذ زمن ما يجري في قنوات كبرى التي تطل علينا كل حين ببرامج أو منصات جديدة تواكب عبرها تسارع الإعلام الجديد، وتبتكر فيها مساحات جديدة تجذب المتابع العربي وخاصة من فئة الشباب. وليس الكلام عن الابتكار والتجديد ولكنه عن ظاهرة بالغة الخطورة والأثر، أن الكثير من هذه المنصات تعمل على إعادة إنتاج وتظهير هؤلاء "المؤثرين"، فمن يستطيع تحقيق أرقام كبيرة في وسائل التواصل وانضم إلى هذه الفئة المستحدثة، تقوم هذه المؤسسات الإعلامية الضخمة بإعادة "إشهارهم" مرة أخرى، أو تسخير منابرها لهم، فيفتح للمؤثر منبرٌ جديد.
فموقع المدونات ذاك ينشر مقالاتٍ شبه يوميّة لأصحاب أقلام لهم مئات الآلاف من المتابعين في صفحاتهم الشخصية، ووسيلة إعلامية متعددة الأذرع تبتكر برامج خاصة بوسائل التواصل الاجتماعي يقدمها "مؤثر" يستضيف "مجموعة من المؤثرين" في قوالب كان يمكن لشباب جامعي ونخب مثقفة أن تقدم فائدة أكبر بكثير، وثالثة تخصص منبرًا شبه دائم لمؤثرٍ قادر بشكلٍ دائم على المشاركة في "الترند"، وغير ذلك من الأمثلة.
تزدحم هذه المنصات بإعادة تصدير "المؤثرين"، أو بعضهم على أقل تقدير، ربما نتيجة علاقاتهم داخل هذه المنظومات الإعلامية، ومن باب المصالح المتبادلة، في إطار استفادة هذه المؤسسات الإعلامية من جمهور هؤلاء في المنصات التي بزغوا فيها، ولكي يحصل المؤثر على مساحة جديدة ويصل إلى جمهورٍ أكبر.
وعلى الرغم من هذه المصالح المشتركة، يظل إعادة تصديرهم للمشاهد أمرًا مستفزًا، إذ تتعمد هذه المنظومات الإعلامية على "النفخ" بهم، فإما يظلون نجوم المنصات أو يخفت نجمهم نتيجة انتكاسات سينمائية على غرار فيلم "الاغتيال الاسطنبولي"، الذي تابعنا مجرياته منذ أعوام قليلة. في مقابل نماذج أخرى من أصحاب المحتوى النافع، ولكن لا تتاح لهم مثل هذه الفرص إلا لممًا.
إسكات المخالف بضغطة واحدة
نقطة أخرى أقلبها منذ أيام ووافق منشورًا للأستاذ عبد القدوس الهاشمي، ألا وهي قدرة "المؤثر" على إسكات المخالف، وإخفاء أي صوت نقدٍ لما يقدمه، فينحبس حينها في دائرة باذخة من المديح المستمر، والثناء الدائم على ما يقدم، فكل كلمة ينطقها هي موفقة ومسددة، وكل رأي يدلي به هو الأكثر اتزانًا وصوابية، هذه الحالة الوردية من التوافق مع الجمهور لا تأتي بسبب قناعات جميع المتابعين البتة، بل بسبب قدرة "المؤثر" على إسكات أي رأي آخر، فلا يظل من التعليقات إلا ما يريدها ويأنس بها، ويسكت كل ما ينتقص من رأيه، أو ينتقد فكرته، ولي في ذلك تجربة...
منذ عدة أعوام، كتبت واحدة من "المؤثرات" في فيس بوك، منشورًا حول تحويل مكة إلى غابة من الأسمنت، وشبهتها بمدينة "غوثام" فقالت بالخلاصة "مكة ليست غوثام، والنبي ليس باتمان" وهو كلام رفضته وما زلت، فعلقت لها عن ضرورة احترام مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد دقائق أعدت الدخول إلى المنشور ولم أجد تعليقي، بل هالني كمية الموافقة والثناء، ليس لاتزان الطرح، بل بسبب إسكات أي مخالف، ولو كان منبهًا على خطأ أو شطط أو تزييف ما، وما حدث معي حدث بالطبع مع عددٍ كبيرٍ آخر.
وأنبه هنا أنني لا أشير إلى سيل الشتائم والتخوين الذي ينشره الذباب الإلكتروني، فهؤلاء ليس لهم إلا الحظر، لبذاءة طرحهم وتدني أخلاقهم، ولكني أتحدث عن النقد الموضوعي ومن ينبه إلى تجاوزات لا يمكنها أن تمر مهما كانت الفكرة الأساسية صائبة ورسالية.
نحن أو لا أحد
ومن مكامن مخاطر "المؤثرين" محاولتهم اختزال الجانب الذي برزوا فيه بأنفسهم، وأنهم أبرز من طرق هذا الباب وأهم من عمل فيه وتصدر في مساراته، وإلى جانب ملمح الغرور الظاهر، والأنفة البالغة، هناك غمط لجهود وإنجاز الكثيرين، وليس موقف "صانعة الأفلام" في البرلمان المزعوم عنا ببعيد، فالآخر صفر مهما كان بالنسبة لهم.
ويحضرني منشور لواحدة من مؤثري وسائل التواصل، التي برزت من البوابة الأندلسية، وتلقفتها وسائل إعلامية كبرى لاحقًا، تضمن واحد من منشوراتها تشنيعًا على من اقتحم ميدان التاريخ الأندلسي، وأوردت أسماء بعينها من "الدعاة" والمفكرين الذين خرجوا للفضائيات ببرامج عن الأندلس... وقد حادت في هذا الطرح عن الصواب، وألمحت بشكلٍ واضح أن هذا الباب له أهله ورواده، في مقابل إجادتها نقد الكثير من مضامين برنامج "الداعية" ذاك، وأشارت إلى مكامن الخلل فيه.
التفاعل المجتزأ مع القضايا الراهنة
ومن مساوئ هذه الطبقة تفاعلها المجتزأ مع القضايا المثارة، أو مع قضايا الأمة الأساسية، وهو تفاعلٌ في كثير من الأحيان ليس إلا من باب إثبات الوجود والمواكبة والانخراط مرة أخرى في "الترند" وليس للإسهام في الدفاع عن هذه القضية المحقة أو تلك. لذلك تجد من يدافع عن قضايا المرأة في أصقاع الأرض، ولكنها تغفل عن معاناة المرأة الفلسطينية في غزة والقدس، وعما يجري مع نساء المخيمات في الشمال السوري وغيرها من قضايا المرأة العربية، في اختزال لقضية المرأة بما يحدث من جرائم مجتمعية فقط، والتغافل عن جرائم المحتل. وآخر يشارك في حملة دعم حياة ذوي البشرة السمراء في الولايات المتحدة، ولكنه يصم أذنه عما يجري في سوريا أو بورما وفلسطين وغيرها من دول العالم، ويظل تفاعله محكومًا مجددًا بالترند وشؤونه، ولا يُبنى عليه تحرك أو انخراط حقيقي في سياق الإسهام بحل هذه الإشكالية أو التخفيف من حدتها.
مفتون بالمجان
أما تفاعل "المؤثرين" ضمن الإطار الديني، فقضية تحتاج إلى مقالات متتابعة، نتيجة تأثيرهم في شريحة كبيرة من المتابعين، وتشابك القضايا التي يتعرضون لها، وحاجتها إلى علم ونظر عميق، وروية في الطرح والمعالجة. ومن مكامن الخطر وجود فئة من المؤثرين لهم مسحة تدين، حينها تظهر أطروحات إشكالية من باب معالجة واقع المرأة في المجتمعات الإسلامية وأن "الإسلام لا يظلم المرأة"، أو نقاش قضايا الحدود وأحكام غير المسلمين والتعامل معهم، وأكثرها انتشارًا في الآونة الأخيرة تلك المواقف الهلامية من "الشذوذ" والجندرية وغير ذلك، فغياب الاطلاع الحقيقي يوصل في نهاية المطاف إلى أطروحات إشكالية تثير المزيد من الأسئلة ولا تجيب عن أيّ منها.
وفي كثيرٍ من الأحيان لا تعالج القضايا في سياق إيضاح مفاهيم أو فتح آفاقٍ جديدة، بل من باب التندر على مقطع لداعية مشهور "غرف بما لم يعرف" فتنهال التعليقات السيئة حول "تخلف ورجعية" الدعاة والعلماء من دون تحديدٍ أو إنصاف، ويتصدر "المؤثر" المشهد هنا على أنه الوسطي القادر على تقديم الحلول الناجعة، والتصور الحقيقي للإسلام، وأن هؤلاء لا يقدمون إلا خطابًا رجعيًا متهالكًا لم يعد يفيد هذا العصر، على الرغم من أن الشريحة الواسعة قد رفضت "تخبيصات" هذا الداعية وغيره، وعدم استعراض العلماء من الجانب الآخر، الذين استطاعوا علاج هذه القضايا بروية وتعمق.
ختامًا، لست أدعو إلى محاربة هذه الفئة، فمنهم من يقدم مضمونًا جميلًا، ولو كان ترفيهيًا، ولكنني أدعو إلى ترشيد ولعنا بهذه الفئة الجديدة، والتنبه إلى آثارهم وما يمكنه أن يحدثوه، خاصة تلك الفئة التي لا تحمل أي فضائل وتتمحور شهرتهم على استعراض حياتهم الشخصية، وإشراك الجماهير في تفاصيل لم نكن نتصور أننا سنراها على يوتيوب أو على انستغرام وغيرها. وضرورة تسليط الضوء على قدرة هذه الشريحة على إحداث تغييرات في مجتمعاتنا خاصة ظهور منصات قائمة على نشر التفاهة وتمحور الشهرة حول مواصفات الجسد ودرجات الخلاعة والتمايل، فكيف سيكون حال آلاف الصغار الذين يتابعون ما هب ودب في وسائل التواصل، ما يدفعنا أن ندقق أكثر في تصدير هؤلاء والمشاركة في صناعة نحن بضاعتها ووقودها.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن