روى أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: ((أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك، قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعُدْ)). أخرجه الحاكم في المستدرك.
وروى عامر الشعبي أن موالي بلال من بني جمح كانوا يضجعونه على بطنه، ويعصرونه، ويقولون له قُل دينك اللات والعزى، وكان الذي يعذبه أمية بن خلف، فيخرج به إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: ((لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد) . رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء).
فيأبى بلال ويقول:((ربي الله، أحدٌ أحد، ولو أعلم كلمة أحفظ لكم منها لقُلتُها)). (الذهبي في سير أعلام النبلاء).
عمار وبلال صحابيان جليلان، تعرضا لنفس الموقف ( التعذيب من قبل الكفار) بلال رضي الله عنه لم يُجب الكفار إلى ما دعوه إليه، وعمار رضي الله عنه تحت وطأة التعذيب الشديد أجابهم إلى ما دعوه إليه.
رغم ذلك أيّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله هذا، بل وقال له:" إن عادوا فعد"...لم نسمع أن رسول الله أو بقية الصحابة لاموا عمارًا، لأن بلالًا استطاع أن يحتمل أكثر منه، نحن البشر طاقاتنا مختلفة، وقدراتنا مختلفة، علينا مراعاة هذا الاختلاف، بالتأكيد هناك حدود دنيا، لا يجوز تجاوزها.
في حادثة اشتهرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، توفيت ابنه أحد الدعاة بعد معاناة مع السّرطان رحمها الله، وكان لوالدها موقف متماسك جدًا عند قبرها، الأمر الذي جعل الناس يظنون أن الجميع يجب أن يتماسكوا عند وفاة أحبابهم، و جعل بعض الناس يؤنبون أنفسهم أو يؤنبون بعضهم الآخر، في حال نزلت دموعهم، أو ظهر عليهم أحد مظاهر الحزن، ولا شك فإن هذا غير صحيح، رسولنا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام أدمعت عيناه وصرّح بحزن قلبه يوم وفاة ابنه، ولربما صرّح بذلك عليه السلام كي نعلم الحدود البشرية... وقبل أن أنتقل إلى أمثلة أخرى، دعوني أستغلّ هذا المثال كي أؤكد على موضوع الحدود، صحيح أن طاقاتنا كبشر مختلفة،، لكن هناك حدود دنيا، ممنوع أن ننزل عنها، مثلًا في موضوع الفقد والوفاة، ممنوع الصراخ وشق الجيب والنواح.
في قصة عمار رضي الله عنه، حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدود الدنيا المقبولة بقوله:" كيف تجد قلبك؟ " مقبول أن يطمئن القلب بالإيمان، وينطق اللسان بالكفر تحت وطأة العذاب الشديد، أما أن ينطق القلب أيضًا بالكفر، فهذه غير مقبولة.
لننتقل إلى أمثلة واقعية أخرى:
مدرّسة تعاني من دوالي في القدمين، ورغم ذلك استمرت في التدريس عدد سنين وتفاقمت حالتها.
مدرّسة أخرى، تعاني من دوالي في القدمين، ثم قررت أن تترك المدرسة و تجلس في بيتها، أصبح البعض يلومها ويقول:" لم لا تكون مثل المدرسة الأولى وتحتمل الدوالي؟" وكأنه فرض على الجميع أن يعاني، وأن يتخذوا نفس القرار.
شخص ظُلم، فقرر أن يسامح، وشخصّ آخر ظلم فقرر ألا يُسامح، رغم أن عدم مسامحة الثاني هي حق أعطاه الله له، إلا أننا نجد من يعتبر عدم مسامحته هي حقد منه وقساوة قلب، ولطالما سمعنا من يقول حرام عليك أن تدعو على من ظلمك، إنهم يقيسون الثاني الذي لم يسامح على الأول الذي سامح ثم يلومون الثاني.
في النهاية أقول أننا ورغم اختلافنا، بالتأكيد نتعلم من بعضنا البعض، وهذا أساس وجود القدوة، وكذلك ننصح بعضنا بعضًا، لكن لا يمكننا لوم شخص قرر أن يتعامل بالعدل والحق، لأن غيره قرر التعامل بالإحسان في موقف مشابه.
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!
عامٌ مَرّ..
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب! الجزء الثاني
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!
ضَوْءٌ لَمَعَ وَسَطَ المَدِينَة