الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد شرع الله –تعالى- الجهاد في سبيله لإقامة دينه في الأرض، وتكون كلمة الله هي العليا، ويخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإسلام، وينعموا بالعدل ومنع الظلم والفساد، قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}[البقرة: 193].
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ) رواه البخاري، ومسلم. وقال ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام” ذكره في البداية والنهاية، وغيره.
(1) ولما كان حمل السلاح والقتال مظنّة التعدّي والظلم فقد حذر الشرع من الفساد والإفساد في الأرض، قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 _206].قال القرطبي في “تفسيره”: “الآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين”.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْغَزْوُ غزْوانِ، فأمَّا من اْبَتغَى وجْهَ اللهِ، وأَطاعَ الإمامَ، وأنْفَقَ الكَريمة، وياسَرَ الشَّريكَ، واْجتنَبَ الفَسادَ، فإنَّ نَوْمَهُ ونُبْهَهُ أْجرٌ كُلُّهُ، وأَّما من غَزَا فَخْراً، ورَيِاءً، وسُمْعَة، وعَصَى الإمام، وأفسد في الأرضِ، فإنَّهُ لم يرَجِعْ بالكَفافِ)رواه أبو داود، والنسائي.
قال الطيبي في "شرح المشكاة": " أي لم يعد من الغزو رأسًا برأس بحيث لا يكون له أجر ولا عليه وزر، بل وزره أكثر؛ لأنه لم يغز لله، وأفسد في الأرض".
وقد (بعث النبيُّ في بعض الغزوات مناديًا ينادي في النّاس: أنّ مَن ضيّق منزلًا، أو قطع طريقًا، فلا جهادَ له) رواه أبو داود، قال المناوي في “التيسير”: “(فَلَا جِهَاد لَهُ) أَي كاملاً أو لا أجر له في جهاده”. لذا فإنَّه ليس كل من حمل السلاح، أو أعلن الجهاد، أو قاتل العدو كان مجاهدًا حقًا، أو حصل على أجرِ الجهادِ ونال بركته، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل قد يقاتل بِنيّة غير صحيحة، أو لغاية محرمة، وشهد لبعض من قاتل معه بالنار لسوء خاتمته، وحذَّر من الخوارج الذين يحسنون القيل والقال ويرفعون الشعارات ثم يسيؤون الفعل. فيجب على المجاهد أن يتعرف على أحكام حمل السلاح والتعامل مع الأعداء؛ ليكون قتاله جهادًا في سبيل الله، ويكون عمله إصلاح لا إفساد.
(2) ولحماية هذا الجهاد من الانحراف أو الظلم فقد وضع له الشارع ضوابط عديدة، من أهمها:
1- مشروعية الهدف والغاية:
وذلك بأن تكون غاية الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) رواه البخاري، ومسلم. وأن يكون القتال لسببٍ مشروعٍ ومن ذلك:
- دفع اعتداء المعتدين: قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد) رواه أبو داود، والترمذي، وقال أيضًا: (قاتِلْ دونَ مَالِكَ، حتى تكون من شُهداء الآخِرَةِ، أو تَمْنَعَ مالَكَ) رواه النسائي.
- أو نصرة المستضعفين: قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75].
- أو الدفع عن الفتنة في الدين: قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
2- الحرص على هداية الناس:
فعن سليمانَ بن بُريدةَ عن أبيه، قال: كانَ رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم- إذا بعثَ أميراً على سَرِيّةٍ أو جيشٍ أوصاهُ بِتَقْوَى الله في خاصَّةِ نفسِه وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: (إذا لقيتَ عَدوَّك من المشركين فادْعُهُم إلى إحدى ثلاثِ خِصالٍ، -أو خِلالٍ- فأيَّتُها أجابوك إليها، فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم: ادْعهُمْ إلى الإسلامِ، فإن أجابوك فاقبلْ منهم وكُفَّ عنَهُم) رواه أبو داود. قال الماوردي في “الأحكام السلطانية”: “من لم تبلغهم دعوة الإسلام … فيحرم علينا الإقدام على قتالهم غِرّة وبياتًا بالقتل والتحريق، وأن نبدأهم بالقتل قبل إظهار دعوة الإسلام لهم”.وقال النووي في “المجموع”: “إن كان العدو ممن لم تبلغهم الدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم إلى الإسلام، لأنه لا يلزمهم الإسلام قبل العلم”.
3- تحريم الغدر والخيانة:
فالإسلام دين الصدق، والوفاء بالوعود والعهود مع الجميع مسلمين وكفارًا، مسالمين ومحاربين.
ففي حق الكفار المسالمين قال صلى الله عليه وسلم: (ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ، وَلاَ عَدْلٌ) رواه البخاري، ومسلم.قال النووي في “شرح مسلم”: “المراد بالذمة هنا الأمان. معناه: أنَّ أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمَّنه به أحد المسلمين، حرُم على غيره التعرُّض له، ما دام في أمان المسلم”. وقال ابن حجر في “فتح الباري”: “قيل: الصّرف التوبة، والعدل الفدية. وقيل: الصّرف النافلة، والعدل الفريضة، نُقل ذلك عن الحسن البصري وعن الجمهور عكسه. وقيل: الصّرف الحيلة، والعدل الدية أو الفدية”.
وفي حال الكفار الذين يخشى من غدرهم قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. أما في حال الكفار المحاربين فعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنَّه قال: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)، رواه أبو داود، والترمذي. قال الشوكاني في “نيل الأوطار”: “وقوله: (وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) فيه دليل على أنه لا يجوز مكافأة الخائن بمثل فعله فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}”.
4- قتال من كان أهلاً للقتال:
وهذا أصل عام قررته الشريعة في العديد من النصوص، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190]، فيحرم قتال كل من:
أ- النساء والأطفال، ففي بُرَيْدةُ -رضي الله عنه- قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّرَ أميراً على جيشِ، أو سريَّةٍ، أوْصَاهُ في خاصَّته بتقْوى الله، ومَنْ معهُ من المسلمين خيراً، ثم قال: (اغْزُوا باسْمِ الله في سبيل الله، قاتِلوا مَنْ كفر بالله، اغزوا ولا تغُلُّوا، ولا تغْدِروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقْتُلوا وَليداً) رواه مسلم. وقد أنكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء في عدة أحاديث: فعَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً، «فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ) رواه البخاري، ومسلم. قال النووي في “شرح مسلم”: “أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والأطفال إذا لم يقاتلوا”. وقد أوصى أبوبكر الصديق جيش المسلمين بقيادة يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم بقوله: “… وَلَا تَقْتُلُوا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا وَلِيدًا…”.
ب- كما أنه نهى عن قتل المرضى الذين لا يستطيعون القتال، كالأعمى، والأعرج، والزّمنى (المصاب بعاهةٍ لا يستطيع معها القتال)، ورجال الدين من الرهبان وغيرهم، وعامة الناس من الفلاحين، والخدم ممن ليسوا من أهل الممانعة ولا المقاتلة. والأصل في هذا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190]. وقد رأى صلى الله عليه وسلم الناس مجتمعين على امرأة مقتولة فبعث رجلاً فقال: (قُلْ لِخَالِدٍ لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا) رواه أبو داود. والعسيف: هو الخادم الذي حمل المتاع دون أن يقاتل. وفي وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم: “إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَدعهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ” أخرجه مالك في الموطأ.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “اتَّقُوا اللهَ فِي الْفَلَّاحِينَ؛ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ إِلَّا أَنْ يَنْصِبُوا لَكُمُ الْحَرْبَ” أخرجه البيهقي في السنن الكبرى.
قال ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”: “وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين. وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء؛ إلا أن يقاتل بقوله أو فعله … لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله”.
حالات مستثناة:
دلت النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم على استثناء ثلاث حالات من منع القتل لما سبق، كما يلي:
الأولى: الاشتراك في القتال. قال ابن حجر في “الفتح” عن قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ): “فإنَّ مفهومه أنَّها لو قاتلت لقُتلت”.
وقال الكاساني في “بدائع الصنائع”: ” وكذا لو حرَّض على القتال أو دلَّ على عورات المسلمين، أو كان الكفرة ينتفعون برأيه، أو كان مطاعًا، وإن كان امرأة أو صغيرًا, لوجود القتال من حيث المعنى”.
الثانية: في حال التَّبييت والغارات الحربية إذا احتيج إليه ولم يمكن التحرز من قتلهم، فيقتلون تبعًا لا قصدًا؛ لعدم القدرة على التمييز بينهم وبين غيرهم من المقاتلين. عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: (سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الذَّرَارِيِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ يُبَيَّتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؟، فَقَالَ: هُمْ مِنْهُمْ) أخرجه البخاري ومسلم. قال ابن حجر في “الفتح”: “ومعنى البيات المراد في الحديث: أن يُغار على الكفار بالليل، بحيث لا يُميَّز بين أفرادهم”.
قال الخطابي في “معالم السنن”: ” يريد أنهم منهم في حكم الدين وإباحة الدم، وفيه بيان أن قتلهم في البيات وفي الحرب إذا لم يتميزوا من آبائهم وإذا لم يتوصلوا إلى الكبار إلاّ بالإتيان عليهم جائز “.
ويدخل في هذا: رميهم بما يعم كالصواريخ والقاذفات والقنابل وغيرها، في حالة الحصار، أو ضرب المقرات والثكنات، أو الرد على قصف القرى والبلدات بالمثل؛ لأنَّه لا يمكن التمييز بين المقاتلين وغيرهم في هذه الحالات. قال ابن رشد في “بداية المجتهد”: “واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق، سواء كان فيها نساء وذرية، أو لم يكن؛ لما جاء أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب المنجنيق على أهل الطائف”.
الثالثة: إذا تَترَّس بهم العدو واتخذهم دروعاً بشرية بحيث لا يَقْدِرُ المسلمون على مهاجمته في ثكناته أو حصونه أو آلياته أو أثناء انسحابه إلا بإصابة هؤلاء المُتَتَرس بهم، فيجوز للمجاهدين ضرب الأعداء وإن أدى ذلك إلى قتل هؤلاء بغير خلاف بين الفقهاء، بشرط: أن لا يمكن إصابة العدو إلا بضرب الترس، وتحاشي قصد ضرب الترس ما أمكن. قال ابن قدامة في “المغني”: “إن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم، جاز رميهم، ويقصد المقاتلة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان، ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد، لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد”.
5- تحريم قتل رسل الأعداء:
فقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي رافع عندما كان رسولاً للمشركين: (إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ) رواه أبو داود، وأحمد.
ومعنى (لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ: لا أنقض العهد، ولا أفسده و(البُرْدُ): جمع بريد وهو الرسول. وقال صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة وقد كانا مرتدين:
(أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا) رواه أبو داود، وأحمد. قال العظيم آبادي في “عون المعبود”: ” فيه دليل على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام”. وذلك لأن الرسل آمنون حتى يبلّغوا الرسالة؛ قال الشرقاوي في “حاشيته على التحرير”: “(قوله إلا الرسل) أي: وإن كان معهم كتاب بتهديد أو قول بتهديد”.
6- النهي عن التمثيل بالقتلى:
والتمثيل هو قطع أعضاء المقتول كأذنيه وعينيه وأنفه ورأسه، وبقر بطنه، ونحو ذلك.
فالأصل أنَّ التمثيل بالكفار محرم، إلا إن كان من باب المماثلة، ففي حديث بريدة السابق: (ولا تمثلوا).
وحديث سمُرةَ بنَ جُندب وعمران بن حصين رضي الله عنهما: (كان نبي الله -صلَّى الله عليه وسلم- يحثُّنا على الصدقةِ وينهانا عن المُثلَةِ)رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. قال ابن عبد البر: “والمثلة محرَّمة في السنة المجمع عليها”.
لكن تجوز المثلة من باب المعاملة بالمثل، لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}[النحل: 126].
قال ابن تيمية في “الفتاوى”: “أما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص”.
وقد أجاز أهل العلم التمثيل بشروط:
أ / ألا تكون بالحرق بالنار، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا) رواه البخاري. وفي لفظ آخر: (إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللهِ) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.
ب / ألا تكون بفعل محرم، وقال ابن قدامة في “المغني:” ” وإن قتله بما لا يحل لِعينِه [أي لطريقة القتل عينها]، مثل إن لاطَ به فقتله، أو جرّعه خمراً أو سحره، لم يقتل بمثله اتفاقاً، ويعدل إلى القتل بالسيف”.
ومن القتل المحرم: الذبح بالسكين؛ إذ لا يصح هذا الفعل عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو صحابته.
قال ابن رجب في “جامع العلوم والحكم”: “والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأوحاها من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه.وهذا النوع هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث… والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل، وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه…
وأسهل وجوه قتل الآدمي: ضربه بالسيف على العنق”. وقال ابن تيمية في “الفتاوى”: “القتل المشروع: هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه؛ لأن ذلك أروح أنواع القتل”. أما قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}:
فهذه الآية عن قتل الكفار حال التحام الصفوف في الحرب، فيجوز حينئذٍ قتل الكافر المحارب بأي طريقة ممكنة لضرورة الحرب، وجاء التعبير بالضرب مناسبًا لطبيعة المعركة وما فيها من شدة وقسوة. قال ابن كثير في تفسيره: ” أَيْ: إِذَا وَاجَهْتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا بِالسُّيُوفِ”.ثم إن “ضرب الرقاب” يختلف عن “الذبح بالسكين”. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لنفرٍ من قريش بعد أن أكثروا من ايذائه وهو يطوف: (أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ) رواه أحمد. فالذبح هاهنا كناية عن القتل، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. قال السمعاني: “معنى قَوْله: {يذبحون أبناءكم} أَي: يقتلُون”. وقال الحَمِيدي في “تفسير غريب الصحيحين “: (وَقَوله: أَمرنِي أَن أحرق قُريْشًا): كِنَايَة عَن الْقَتْل، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام:
(جِئتُكُمْ بِالذبْحِ). ويؤكد ذلك أن هؤلاء الأشخاص الذين توعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوعيد، كأبي جهل وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وغيرهم ممن ورد ذكرهم في الروايات: لم يَذبح أحدًا منهم بالسكين، بل كان مصيرهم القتل ضربًا بالسيف في غزوة بدر كسائر قتلى المشركين.
ثم إنَّ هذه الجملة (لقد جئتكم بالذبح) لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الكفار، ولا لعموم قريش، بل لبعض من اشتدَّت أذيته منهم له وللمسلمين، فلا يجوز جعلها شعارًا عامًا مع جميع الناس والكفار في كل زمان ومكان!!وقد ثبت قطع الرأس بعد الموت في عدد من الحوادث، وهذا من المثلة وليس طريقةً للقتل، أما الذبح فلم يُعرف إلا عن الخوارج الأولين.
ج- أن يترتب على المثلة مقصد صحيح راجح، أما إن ترتب على المُثلة ضررٌ أعظم على المسلمين: فتحرم.
قال السرخسي في “الشرح الكبير”: ” أكثر مشايخنا -رحمهم الله- على أنه إذا كان في ذلك كبت وغيظ للمشركين، أو فراغ قلب للمسلمين، بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين فلا بأس بذلك”. وقال ابن تيمية: “المثلة حق لهم، فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر، ولهم تركها و الصبر أفضل، وهذا حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد، ولا يكون نكالاً لهم عن نظيرها، فأما إن كان في التمثيل الشائع دعاء لهم إلى الإيمان، أو زجر لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع، و لم تكن القضية في أُحُد كذلك؛ فلهذا كان الصبر أفضل، فأما إن كانت المثلة حق لله _تعالى_ فالصبر هناك واجب، كما يجب حيث لا يمكن الانتصار و يحرم الجزع”.
7- النهي عن الإفساد في الأرض بقطع الشجر، أو قتل الدواب أو هدم العمران دون سبب:
فقد أوصى أبو بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم بقوله: “… وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ” أخرجه مالك. أما إذا كان في ذلك مصلحة للجهاد، كأن لا يوصل للأعداء إلا بقطع الأشجار أو إزالة البناء، أو لا يمكن رمي الأعداء إلا بالتسبب بقتل هذه المواشي: فهو جائز، قال الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5].
قال ابن كثير في “تفسيره”: “أي: ما قطعتم وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذن الله ومشيئته وقدرته ورضاه، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم”. وعن نافع، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنَّهُ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ) رواه البخاري، ومسلم.
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة