متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
عندما تنطفئ شمعة الحياة وينتهي العمل ..!
كتب بواسطة نجيبة بلحاج ونيسي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1689 مشاهدة
إثر وفاة النّاشطة الحقوقيّة والمدوّنة حليمة معالج بعد إصابتها بالكورونا، وهي من المعارضين ضمن التّيّار الإسلامي في تونس، غرّدت بثينة قويعة الصّحفيّة بالإذاعة الوطنيّة التّونسيّة تغريدة تقطر كراهية وحقداً فرحاً بوفاة النّاشطة.
ولم تتورّع عن ذكر المتوفّاة بالسّوء وبذيء الكلام.. فقط لكونها مخالفة لها في الفكرة أو التّوجّه السّياسيّ..! ليست لي أيّ معرفة شخصيّة بالمتوفّاة ولا بالصّحفيّة، ولكنّ الّذي أهمّني الموقف من الموت ذاته في عالمنا المعاصر!؟.. إلى أيّ منحدر تدحرجت مفاهيمنا للحياة فضاق فهمها ونأت المواقف عن الحقّ، أ إلى هذا الحدّ تختلّ المقاييس الأخلاقيّة، فيستساغ العنف اللّفظيّ حتّى تجاه الأموات!.. حتّى الموت ارتبط ذكره باتّباع الهوى...
جعلتني هذه التّغريدة، أفكّر في عادات المسلمين المعاصرة عموما وما آلت إليه من انحراف . لقد طوّعوا ما أقرّه اللّه من سنن وتراتيب عمل، عند الموت وفي كلّ جوانب الحياة، لخدمة دنياهم الزّائلة.. عند بعضهم، اختزلت الصّدقة على الميّت في إطعامٍ للمعارف، اليوم الثّالث بعد وفاته، وليس بالضّرورة للمحتاج..! ومنهم من يتنافس في تكليف أمهر الطّبّاخين لإعداد "مأدبة" المأتم هذه الّتي يسمّونها "صدقة"..! ويعمد البعض الآخر إلى تأجير قرّاء لقراءة القرآن كاملا في جلسة واحدة، "صدقة" على الميّت أيضا، وينال كلّ قارئ أجره المعلوم من المال! و ترتفع الأصوات عند القراءة، وتتداخل الأجزاء المقروءة وتختلط الآيات، ويغيب الفهم والخشوع.. وتغيب السّكينة و تهيمن الدّنيا حتّى في مثل هذه اللّحظات الرّهيبة.. ولا تخلو جلسات التّعزية من لغو الحديث والغيبة والنّميمة..!
مظاهر غريبة وعجيبة تزخر بها بلادنا اليوم عند مناسبة الموت، لا علاقة لها بالأدب النّبويّ في مثل هذه المناسبة، ولا حتّى بالفطرة الإنسانيّة.
لقد زيّن إبليس الدّنيا للعبد حتّى اعتقد أنّها دار قرار، فأصبحت هدفه الأوّل والأخير، وانغمس في تحقيق لذّاته من دون أيّ حدّ أو قيد.. همّه اللّحظة الحاضرة وما يحوم حولها، فطغى وتجبّر، وظلم، وهتك أعراض الأحياء، ولم يتورّع البعض عن الإساءة للأموات..
نسي أغلبنا أنّ دنيا الفرد محدودة بالمدّة الزّمنيّة المقدّرة له فيها. متاعها ضئيل وزائل.. يقول اللّه تعالى: (قل متاع الدّنيا قليل و الآخرة خير لمن اتّقى).(النّساء 77) ، ونسوا أنّ انفصال الرّوح عن الجسد ليس إلّا مرور إلى الحياة الحقّة.. إلى المتاع الخالد.. وغاب عنهم حديث ابن عمر عن الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم: " كُن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل." (البخاري)، و كذلك حديث أبي هريرة عنه عليه الصّلاة و السّلام: " أكثروا من ذكر هادم اللذات" للترمذي.
فهل يا ترى ذكرنا للموت هدم الإفراط في السّعي نحو اللّذّة؟!.. هل قلّص من الاعتداد بالذّات، والكبرياء الملغي لكلّ من خالفنا في الرّأي.. هل أعاننا على تطهير نوايانا؟!.. هل حفّزنا ذكره على الاستعداد له؟!..
نسيَ أغلبنا سكرات الموت وضغطة القبر.. ماذا أعددنا للبرزخ؟.. برزخ تكون فيه أرواح المؤمنين المدركين لحقيقة الحياة والّذين أحسنوا الاستعداد للموت، في نعيم مطلق غير محبوسة. في حين تُحبَس أرواح الكفّار في برزخ ضيّق لا تستطيع السّعي.. يقول سبحانه و تعالى: ( حتّى إذا جاء أحدهم الموت، قال ربّ ارجعون، لعلّي أعمل صالحا فيما تركت. كلّا إنّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)( المؤمنون 99 ـ 100)، نسي أغلبنا البعث ونفخ الصّور ونفخة الإماتة ونفخة النّشور.. والحساب والميزان.. والمرور على الصّراط، الجسر المنصوب على متن جهنّم آخره في الجنّة..
المؤمن الّذي يتربّى على المفهوم القرآنيّ للحياة والموت وتربية الرّسول الرّشيدة، يستيقن أنّ وجوده في هذه الدّنيا المحدودة بالموت، ليس عبثا، وإنّما هو لحكمة اختارها اللّه له ( أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا وأنّكم إلينا لا ترجعون). ( المؤمنون 115 )، المؤمن الواعي لتعاليم دينه يعلم حقّ العلم أنّ اللّه خلقه ليمتحنه في مدّة قصيرة،.. امتحان يُخرِج به اللّه ما سبق في علمه من فعل العباد ليقيم عليهم الحجّة بحقيقة ما ظهر من فعلهم ( تبارك الّذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير. الّذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا..) ( الملك 2ـ1 )..
اللّه سبحانه هو العدل، والعقل الّذي يؤمن بعدله لا بدّ له أن يؤمن بالآخرة دار جزاء للمحسن وعقاب للمسيء.
المدرك لحقيقة الوجود وكنه الحياة والموت، لن يترك الدّنيا تملك قلبه وتحيد به عن العدل مع نفسه ومع غيره، مهما تباعدت الأفكار ووجهات النّظر.. وعيه بالحقائق يجعله، نيّة وعملا، يحذر في كلّ أقواله وأفعاله وحركاته أن يسقط في ظلم أحدهم أو يعمل في السّرّ ما يستحي أن يفعله في العلن..
إلى أيّ مدى تتناغم تربيتنا مع مثل هذا الإدراك؟!..
ألا نعتبر بذكر أهالينا وأصدقائنا الّذين فارقونا .. أجسادهم تحت القبور تجزّءت.. ما حال وجوههم الحسناء؟! .. أين أموالهم؟!.. أما من مدَّكّر؟ّ..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة