الهوامش "footnotes"، ويُطلق عليها عادة اسم "الحواشي": هي مُدونات خارجة عن المتن، ولكنها جزءٌ لا يتجزأ منه في نفس الوقت. فثَمة معلومات مكانها متن الرسالة، وثمة معلومات مكانها هامشها، وما يصلُح هنا لا يصلُح هناك. والغاية من الهامش هي تجريد المتن من تلك الاستطرادات، التي لا تُعد جزءًا رئيسًا من البحث، ولكنها في الوقت ذاته ضرورية لإعطاء القارئ أو الطالب صورةً كاملة لجميع جوانب البحث. فهي إذًا تسهم في إبقاء تسلسل أفكار القارئ، دون تفويت فرصة تقديم معلومات تــُثري البحث.
وأبرز محتوياتها التوثيق، وذلك بالإشارة إلى مصادر البحث ومراجعه، وإسناد الآراء، بغية إعطاء الـمُتخصص فرصةً للرجوع بنفسه إلى بعضها، إذا رغب في التثبّت بنفسه من مسألة مُعينة، وإذا رغب أيضًا في متابعة البحث في نفس الموضوع.
وثـمة محتويات أخرى لا تقلّ أهمية.
من ذلك تعريف اسم شخصية عامة أو علمٍ ذُكِرَ داخل المتن، وقد يكون غامضًا عند بعض القرّاء.
ومن ذلك توضيح الكلمات الصعبة أو المصطلحات الغريبة أو أصول بعض العبارات أو الجمل الغامضة التي تُذكر داخل المتن.
ومن ذلك التعليق السريع على جزء من فكرة وردت في المتن، وهي لا ترتبط مباشرة بموضوع الرسالة.
ومن ذلك تذكير القارئ بنقطة سابقة، أو لَفْتُ نظره إلى نقطة ستُذكَر لاحقًا في البحث. ويكون ذلك حين ترتبط هذه النقطة بما يقرؤه القارئ في الصفحة التي بين يديه. ويدعى هذا الإجراء بـ(الإحالة)، ويُسمى في اللغة الإنجليزية Cross Reference.
****
وإذا عدنا إلى المحتوى التوثيقيّ نجده حاضرًا في ثراثنا منذ بداياته في الجاهلية.
فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني (356هـ) في "الأغاني" سلسلة من الرواة الذين تناقـــــــلوا قصائد أساتــــــذتهم. فـــأَوْس بن حجر روى شعرَه تلميذُهُ زهيرُ بن أبي سلمى. ثم روى شعرَ زهيرٍ تلميذاهُ: ابنُه كعب، والحطَيئةُ. وروى شعرَ الحطيئةِ تلميذُه هدبةُ بن خشرم. وروى شعرَ هدبةَ جميلُ بن معمر. وروى شعرَ جميلٍ كثيّرُ بن عبد الرحمن.
وفي مسار مشابه روى أبو ذؤيب الهُذليّ شعرَ ساعدة بن جؤبة الهذليّ. وروى طرفةُ بن العبد شعرَ عمّه المرقّش الأكبر، كما روى شعرَ خالِه الـمتلمِّس.
****
ومع قدوم الإسلام حظي القرآن الكريم بتوثيق شديد القوّة، ولهذا برز دور كُتّاب الوحي، وقد جعلهم الحافظ ابن كثير (774هـ) في "البداية والنهاية" ثلاثة وعشرين، منهم الخلفاء الراشدون الأربعة، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وخالد بن الوليد، والزبير بن العوام....
وفي عهد أبي بكر الصديق، وضع زيد بن ثابت خُطّةً مُحكمةً لجمع القرآن، وذلك بأخذ ما كُتب أمام النّبي، عليه الصلاة والسلام، وبإملاءٍ منه، وما كان محفوظًا عند الصحابة على زمن النبي، عليه الصلاة والسلام.
ونقل السيوطي (911هـ) في الإتقان أنّ عُمَر قَالَ: مَنْ كَانَ تَلَقَّى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ بِهِ... وكان زَيْد بن ثابت لا يكتفي بمجرد وِجْدَانِهِ مَكْتُوبًا حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ مَنْ تَلَقَّاهُ سَمَاعًا مَعَ كَوْنِه كانَ يَحْفَظُ، مُبَالَغَةً فِي الِاحْتِيَاطِ. وكان يتأكّد من كلّ ذلك بشهادة عدليْن. قال ابن حجر (852هـ): "وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّاهِدَيْنِ الحفظ والكتابة". وقال السّخاويّ (902هـ): "رجلان عدْلان يشهدان أنه كُتب عند النبي، عليه الصلاة والسلام".
واعتنى المسلمون كذلك بتوثيق الأحاديث.
قال محمد بن سيرين (110هـ): "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سمُّوا لنا رجالكم...." رواه مسلم والترمذي. وقال أيضًا: "إنّ هذا الأمر دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم". رواه مسلم.
وقال عبد الله بن المبارك (171هـ): "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء على ما شاء". رواه مسلم.
وقال الإمام الشافعي (204هـ): "الذي يطلب الحديث بلا سند كحاطب ليل يحمل الحطب وفيه أفعى وهو لا يدري." أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى.
وانتقل منهج الرواية هذا إلى علوم القراءات، وكتب السيرة، والتاريخ، والتفسير، واستعان به من قاموا برواية الشعر وتدوينه، وصرنا نجد كتّاب الأدب والنّقد والبلاغة يضمّنون مصنّفاتهم جزءًا كبيرًا منه.
****
وبعد أن تمكّن علماؤنا من مهارات التوثيق، صاروا يصنّفون متونًا للتعليم والأمالي، ثم يصنّفون شروحًا لها أو حواشي يضيفون فيها أشياء جزيلة الفائدة، مثل شروح المفردات والمصطلحات، وتخريج الأحاديث والتعليقات اللغوية، وإعراب الشواهد. ومن ذلك أنّ المعرّي (449هـ) شـــــــرح غريب كتابه "الفصـــــول والغايات"، وأنَّ الإمــــام عبد الله بن محمود الموصلي الحنفي (683هـ) شرح كتابه في الفقه الحنفي "المختار للفتوى"، وعلّق عليه وفصَّل في كتاب آخر هو "الاختيار لتعليل المختار"، وأنّ ابن هشام (761هـ) شرح كتابَيه "قطر الندى وبلّ الصدى" و"شذور الذهب".
وواكب هذا الأمر أن يقوم مصنِّف آخر بشرح الكتاب أو التعليق عليه. ومن ذلك أن الإمام أبا حامد الغزالي (505هـ) صنّف "الإحياء في علوم الدين"، ثم تعقّب أحاديثه وآثارَه الحافظُ العراقي (806هـ) في مصنّفه "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار وتخريج ما في الإحياء من الأخبار". وصنّف أبو يعقوب السكاكي (626هـ) كتاب "المفتاح" في البلاغة، ثم جاء القزويني (739هـ) ولخّصه في "تلخيص المفتاح"، وشرح هذا التلخيص في "الإيضاح"، ثم كتب سعد الدين التفتازاني (792هـ) "المطوّل على تلخيص المفتاح"....
****
وجاء البحث الحديث، ونظّم التوثيق والشروح والتعليقات وتراجم الأعلام وسائر الإضافات، في الحواشي السفلية مرتّبة وفق أرقام متسلسلة، فكان هذا الإجراء موافقًا لمنهج السّلف في بلوغ الفوائد المعرفية، والإحاطة بالبحث من كلّ جوانبه، كمَا بيّنّا في بداية هذا الكلام.
وفي سنة 1929 قررت مجموعة من علماء النفس وعلماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) ومديري الأعمال، البحث عن مجموعة من الإجراءات أو القواعد البسيطة التي تحدّد وتوضّح مختلف عناصر الكتابة العلمية، وتسهّل عملية القراءة والفهم.
ثم عمدت "جمعية علم النفس الأمريكية" إلى نظام في التوثيق سمّته (APA)، اختصارًا لعبارة American psychological Association . والغاية الأساسية لهذا النظام أن يقوم الباحث بالتوثيق ضمن متن البحث، فيذكر اسم الكاتب ويرمز إلى االكتاب، ويحدّد الصفحة، داخل أقواس تلي الكلام المقتطف أو المقتبس مباشرة.
****
والواقع أن نظام التوثيق (APA) يتضمّن عدة ثغرات:
فهذا النظام يقحم التوثيق في متن البحث، لا في الحاشية، وهو بذلك يخالف الصورة المألوفة التي اعتادها الطالب الباحث في كل المصادر والمراجع التي يعود إليها، وفي كل الرسائل والأطاريح التي يستأنس بها. ولذلك سيجد فجوة بين ما ينبغي أن يكون نموذجًا للكتابة البحثية يحاكيه، وما يُفرَض عليه من نظام توثيق. ونحن نرى كذلك في الدراسة الثانوية ضمن المدارس اهتمامًا بالحواشي السفلية، وورود أسئلة في الامتحانات الرسمية عنها، فلماذا نُحيل الباحث إلى غربة عن كلّ هذا!؟
وهذا النظام لا يتيح للباحث أن يشرح المفردات الصعبة التي قد ترِد أثناء نقلِه نصًّا قديمًا، أو نصًّا جديدًا فيه مصطلحات غير مأنوسة. كان المعهود أن يشرح هذه المفردات في الحواشي، دون التشويش على المتن، أو الإشعار بالاستطراد فيه. ونظام الـ APA لم يجد بديلًا صالحًا من ذلك.
وهذا النظام لا يتيح للباحث أن يذكر تراجِمَ الأعلام الذين يرد ذكرهم في المتن. كان المعهود كذلك أن يذكر سطرين أو ثلاثة لترجمة العلم في حاشية، دون التشويش على المتن، أو الإشعار بالاستطراد فيه. ونظام الـ APA لم يجد بديلًا صالحًا من ذلك أيضًا. ولن يكون من المناسب أن نضع ضمن الملاحق لائحة بهؤلاء الأعلام، مع تراجمهم، لأنّ القارئ يعنيه الاطلاع السريع على هويات الأعلام الذين يتحدث عنهم الباحث، لـيعلم مدى الثقة بكلامهم وآرائهم، لا أن يقلّب الصفحات كي يعثر عليها.
وهذا النظام لا يعطي حرية التفصيل في التعليق على التوثيق. فلو أراد أن يقول "قرأه ورش بهذا الوجه، وخالفه الآخرون" لاضطرّ إلى ذكر ذلك باعتباره من المتن. وكذلك لو أراد الباحث بعد ذكر الحديث النبوي أن يقول: "رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي"، أو أراد أن يقول عقب إيراد بيت شعر: "أخذ فكرته من بيتِ فلان"... والأمثلة كثيرة.
ويقترح هذا النظام في حال الاقتباس الحرفي ووجود خطأ لغوي في الأصل، أن يقوم الباحث بوضع مصطلح sic بين قوسين عقب الخطأ. وهذا الأمر لا يتَّسِم بالمهنيّة الكافية. فالخطأ لا بدّ من إيضاحه وتصويبه. ثمّ إنّ الباحث ربما يتوهّم خطأً، وليس كذلك، فيُحدِث فينا الانطباع بأنّ الكاتِب المنقول عنه لديه ثغرة في اللغة. وقد كان نظام الحواشي يُغني عن كل هذا الإرباك، حين يطلب من الباحث نسخ الكلام دون تغيير، وإذا وجد خطأً يقول في الحاشية: "كذا في الأصل، والصّواب كذا". وهذا عين الأمانة العلمية.
وهذا النظام، بناء على ما سبق، يقتصر على التوثيق المباشر للمصدر أو المرجع، في حين أن وظائف الحواشي واسعة: التوثيق- ترجمة العَلَم- شرح مفردة- تعريف مصطلح- التعليق السريع على معلومة- الإحالة إلى صفحات سابقة من البحث- ذِكْر ظروف صدور هذا الموقف من الكاتب...
وواضح بالاستناد إلى ما مضى أنّ هذا الـنّظام لا يلبّي حاجة الباحث إذا أراد تحقيق مخطوطة!
وهذا النظام لا يعطي وضوحًا في التوثيق، فبدلًا من أن يقول الباحث بوضوح، لدى الاقتباس أوّل مرةٍ من كتابٍ: (الجاحظ، البخلاء، تحقيق وتعليق: طه الحاجري، دار المعارف، ط5، 1938م، ص50)، سيلزمه نظام الـ APA أن يقول فقط: (الجاحظ، 1938، ص50)! وعلى القارئ أن يعود إلى لائحة المصادر والمراجع لفكّ هذا الطلسم!
ومن التساؤلات: ماذا يفعل الباحث إذا كان بحثه عن الجاحظ، وأراد أن ينقل عن خمسة من كتبه؟ وماذا يفعل إذا كان بحثه عن كتاب البخلاء، وأراد أن ينقل عن عدة نسخ؟ كيف سيكون شكل المتن؟! وماذا يفعل الباحث إذا أراد سوق معلومة، وأسندها إلى خمسة كتب، لإعطاء المزيد من المصداقية؟ هل سيضع ذلك كلّه في قوسين ضمن المتن، وهو يستهلك أربعة أسطر؟ كيف سيكون شكل المتن؟! لقد حاول نظام الـ APA إيجاد حلول، لكنّها بدت مشكلات جديدة.
وإذا قلنا بالازدواجية، والجمع بين نظام الـ APA، ونظام الحواشي، فالـمشكلة تصبح أعقد.
****
وفي خلاصة سريعة، أرى أنّه لا بدّ من الإبقاء على نظام الحواشي السفلية، لأنّها تشكل امتدادًا طبيعيًا لطرائق التصنيف لدى علماء تراثنا، ولأنّها تمكِّن من الجمع بين التركيز على هدف البحث، والتلميح إلى مسائل جانبية، دون الاستطراد، والإخلال بالسمت العلمي.
ويطيب لي أخيرًا أن أسأل: ألم يكن علماء المنهجية حين اقترحوا نظام الحواشي، وأدرجوا فيها ما أدرجوا، قد استقَوا هذا النظام من طبيعة مصنّفاتنا العربية والإسلامية؟ يحتاج هذا السؤال إلى بحث خاصّ، قد يأتي بنتائج وافرة.
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!