باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
معراجان في إسطنبول 2..
كانت التدوينة الأولى من رحم أفكار مبعثرة، كُتبت منذ نحو خمسة أعوام، واليوم أعود إلى الكتابة عن المدينة، وعن زيارتها ولكن بعين أخرى، عَين الباحث عن موئِل والمُلتاع من الأُتون.
لم تكن إسطنبول وجهة واضحة منذ ثلاثة أشهر أو أقل، ولكن لحظة ما، هي التي بدّدت سحب القلق والتَيه، وسمحت أن تكون هي الوجهة القادمة، لن أتحدث عن الصعاب فهي أمور عادية يمر بها الناس جميعًا، خاصة من يكون في بلادنا البائسة التي تفتقر إلى أقل مقومات الحياة، وأبسط أولويات التنظيم.
عدت إلى المدينة بعد خمس سنوات، لم تتغير كثيرًا عليّ، فما شاهدت منها إلّا أقلّ القليل، فبقيَت الصورة على ما هي عليه، من دون تغيير أو تصحيف... إسطنبول عاصمة الدنيا، ودرّة من درر البشرية، وواحدة من أبدع عواصم الحضارة الإسلامية، التي تحمل إرثًا إنسانيًّا هائلًا، وتضرب جذورها في عمق التاريخ، وفيها ما فيها من معالم الحضارة والبنيان ما يسلب الألباب... عدت إليها باحثًا عن أفق جديد، فقد كادت أن توصد الأبواب أمامنا في بلادنا الحزينة.
ليست انتقالة استثنائية، فما زلت في العمل نفسه، والتخصص ذاته، ولكني وجدت أن المساحة التي أسعى في إطارها تضيق شيئا فشيئا، وأردت أن أفتح كوّة في الجدار الراهن، أن أخطو خطوة إلى الأمام في ميدان جديد واسع، فيه فرص جديدة وعلاقات مختلفة، وأُطر أوسع، لذلك كانت تلك اللحظة، وكان استثمار الفرصة أمرًا ملحًّا جدًّا...
عدت إلى إسطنبول والخطة استقرار إلى حين، ومتى سيأتي هذا "الحين" العلم عند الله تعالى.. ألوذ إلى المدينة وأحاول التدثّر بها، ولكنها أكبر من أن تلحظني، ومع كل يوم أقضيه في المدينة، يزيد تولهي بمدينتي طرابلس الشام، فعلى الرغم ممّا تعانيه وتمرّ به، فالمدينة رؤوفة بمن يعيش فيها، تعامل من يسكن فيها، مثلما تعامل الجدّة الرؤوم أحفادها، تحتويهم وتعطيهم ما في جُعبتها، على الرغم من ضآلتها أمام مدن العالم، وفيها من كنوز الحضارة والتاريخ ما لا يقل عن غيرها، ولكنه الإهمال واللامبالاة، تجعلان منها ما هي عليه اليوم، ولو قيّد لها ما قيّد لإسطنبول لكانت مدينة أخرى...
ليست المدينة قاسية بالضرورة، ولكن بتعبير زوجتي ترتدي لباسًا رأسماليًّا لافتًا، لقد فتكت الرأسمالية بها، كل شيء فيها بحاجة إلى المال، حتى أدق التفاصيل تضطر الزائر للدفع، أعرف يا سادتي أنه تعميم، والمدينة مهولة ولا يمكنني اختزالها بعدد من الأحياء وبعض الزيارات هنا وهناك... نعم صحيح، ولكن رأسمالية المدينة أوضح من أن تخفى، ولكن خلف هذا الثوب السميك روحًا شفافة، ومدينة بهيّة وادعة، تختزل جمال ألف مدينة، روح إسطنبول هي تلك الروح التي نبحث عنها في مساجدها وفي عيون أطفالها، وفي ذلك الإرث العظيم من مقابر وأعلام وقادة وسلاطين...
أحاول تلمس طريقي في هذه المدينة العجيبة، أحيانًا أشعر أن المدينة أضخم بكثير من قدرتي على التصور، المسافات شاسعة، وسكانها بالملايين، وأنا الصغير الضئيل في هذا البحر اللّجي، وتلك الأمواج المتلاطمة من البشر، ربما يعيش القادم من المدن الصغيرة صدمة أمام حجم المدينة، فكل تنقل فيها يحتاج إلى الاستعانة بكل ما في الجعبة من تطور، تنساح في أرجائها كأنك نقطة ضئيلة في فلاة شاسعة.
دفعتني المدينة في زيارتي الأولى للتفكر في واقع المدينة ودورها، ومركزيتها، وعن المدينة في الإسلام وحيويتها، ولكني هنا أتلمس صورة أخرى لهذه المدينة، التي تجمع أشتاتًا من المضهدين والمعذبين والباحثين عن الأمل، تستوعب إسطنبول كل هؤلاء وأكثر، فهي محطة لمن يحلم أن تكون محطته لينتقل منها إلى ساحات برلين وشوارع باريس، وهي الظل الهانئ بعد نيران الحرب في سوريا وإجرام الجلاوزة فيها، وهي مساحة عمل ونجاة ممن هرب من دول الانقلابات والحكم بالحديد والنار، وهي مدينة الفرص المدفونة لمن يملك الرغبة في الاستثمار والشجاعة عليه، والقدرة على تحمل تكاليفه... وقبلهم جميعًا، جماعات من المعارضين العرب، يلتحفون فضاءات هذه المدينة، ويبحثون فيها عن موئل كذلك وملاذ...
وحول هؤلاء كانت مشاهداتي عنهم جميعا، فهناك في أحد "بازرات" المدينة شاب من طرابلس، انقلبت فيه الدنيا من تاجر إلى بائع على "البسطة" وهو يحمد الله على حاله وأنّ عمله يستره وعياله، وفي أحد المؤتمرات التي لا تكاد تنقطع عن إسطنبول لقاء مع معارض عربي قديم، يضحك ويتأفف كلما ذكر النظام السياسي الذي يعارضه، ويقول لو كانوا سيتغيرون - يقصد النظام وشيعه - لتغيروا منذ زمن بعيد، ولكن هيهات، ويطلق ضحكاته الساخرة. وفي واحدة من القنوات الفضائية التي زرتها صحفي يحدثني عما مرّ به من مصاعب وعراقيل، وما جلبه عليه الرأي من تضييق على أسرته في مسقط رأسه، ودمعة مكبوتة في عينه رأيت التماعها على حين غرّة منه، وفي مواصلات إسطنبول المزدحمة لقاء مع عجوز مصري جمعني به سؤال عرضي عن وجهة يقصدها، وقد خرج فارًّا من بطش الانقلابيين، وفي هذه المواصلات صور وشخوص، كل يعيش عالمه الخاص، في شغل عن الآخرين، كم من وجه حزين وبائس أسند رأسه مطرقًا، يتفكر في مدارات حياته وتقلبات أيامه...
وآخرون كثر، من كل جنسيات الدنيا، يبحثون مثلي عن ملاذ فيها، والمدينة كما يقول تميم دهرها دهران، لديها دهر ينام في مساجد المدينة العظيمة، ويستيقظ في قصور السلاطين الباذخة، حجارتها بألوان الدنيا، فيها ألف ألف وجه، وما فيها من أصحابها الأوائل أحد.
ودهرها الثاني، صاخب سريع الوتيرة حاسم مثلها، لا يرحم أحدًا من هؤلاء، تطلب منهم جميعا أسباب الطاعة، ولا تعطي أحدًا منهم مطلبه إلا وهي تشيح بوجهها عنه، فهي كالحسناء التي كثر طالبوها، وأضحت تُقبل وتُدبر، تقترب وتبتعد، ولا ينال طالب الوصال منها إلا المزيد من الحسرة والكمد والتلهف...
وإني مثل من التقيت ورأيت، أنسج قصتي في هذه المدينة أيضًا، وأُلملم دهري بين دهريها، وفي ثنايا القصة تفاصيل حياة جديدة، أحاول رسم تفاصيلها وأتتبع حيثياتها بقلب متوكل وروح متوثة، وإلى حين انتهاء المعراج الثاني، أبحث عن نفسي في هذه المدينة، وأعيد رسم المشهديّة مرة جديدة، وسردية البحث عن الذات لا تتوقف أبدًا...
أترك القلم وأردد هذه الكلمات:
هي الحياة لعبةٌ قانونها
الفوزُ ليس بالوصولِ أولًا
بل بالوقوعِ والوقوعُ فرصةٌ
للحلمِ أن يقيسَ العزم سائلاً:
استسلمَ أم أكملَ؟؟
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة