رُبّ كلمة
ذات يوم بعيد، يزيد بعده عن عشرين عامًا، قالت لي صديقة: لماذا لا تجعلين مشروع حياتك القادمة حفظ القرآن الكريم؟
قالتها في جلسة جمعتنا في ذلك اليوم البعيد، والحديث كله نسيته ولم يبق منه في الذاكرة إلا تلك الكلمة في لحظة نصح، حتى هي اختفت ولم أجدها!
كلماتها كانت نورًا لم تطفئه كلّ تلك السنين، لم تطفئه الأحداث ولا الأسفار ولا الأحزان أو الأفراح؛ بل إنّ هذا النور يلمع أكثر كلما اعتقدتُ أني لم أفعل شيئا مهمًا خلال برامج حياتي.
عقدتُ العزم وتشجعتُ وأخذتُ القرار، وانتسبت إلى إحدى مدارس تحفيظ القرآن، فصار المصحف رفيقي، وصرت أنام وعقلي يردد الآيات التي حفظت، وأصبحت معظم يومي متوضئة، يرى أبنائي أمامهم أمّا تحتضن المصحف وتكرر آياته وتعرض عليهم ما حفظته، وعندما تموت سيقولون: رحمها الله كانت حافظة للقرآن أو ماتت وهي تنوي حفظه كله، وسيكون منهم أو كلهم من يفعل مثلي... (هذا ما روته في تأثر إحدى صديقاتي)!
سبحان الله! كم هو تأثير الكلمة على القلب والعقل والقرارات والأفعال وبناء الشخصيات! نعم، فالكلمة تَجبُر أو تكسر، تُفرح وتُحزِن، تداوي وتؤلم، تجعلنا ناجحين أو فاشلين، مهمين أو تافهين، طموحين أو كسالى.. بل ناجين من عذاب النار أو فائزين بالجنات! ألم يقل رسولنا صلى الله عليه وسلم :"إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّم"؟!
كم كلمة نتكلم في اليوم؟ وفي الشهر؟ وفي السنة؟ وخلال السنوات التي عشناها؟ هل تخيلنا كم كلمة منها حسنة طيبة !؟ و أيُّها التي رضي الله عنها ؟ أيّها التي سجلت في موازين حسناتنا؟ كم منها دعاء وذكر وتلاوة للقرآن وتهذيب وإصلاح ولين ورفق وإصلاح وتعليم وتشجيع؟ وكم منها خبيث كريه مفسد مخرب؟ كم منها غيبة ونميمة أو تخريب وتخبيب؟ أو سب وشتم ؟ كم منها بذيء وخارج عن نطاق الأدب والحياء؟ كم منها تذمر وتسخط؟
نتهاون كثيرا بما تثرثر ألسنتنا طول اليوم، ونندفع ونحن نتكلم دون حساب ليوم الحصاد "وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟"
هل يجب أن نفكر في كل كلمة قبل أن نقول؟ الأمر صعب! معنى ذلك أنّا لن نتحدث، كما إن الحديث يخرج عفويا في معظم الأحيان، فهل نصمت لنفكر ثم نقول؟
ليس الأمر كذلك فالطيب بيّن والخبيث بيّن، والمطلوب هو الحرص كلّ الحرص على الانتباه لما نقول ليكون كلامنا طيبا.
فأولا- عندما نعرف أن:
- كل كلمة نقولها يراقبها رقيب ومستعد لكتابتها، {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
- وأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر؛ يجب أن يكون كلامه كله خير ومنفعة وإصلاح "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
- وأنّ الخير الذي نقول نثاب عليه بل ويدخلنا الجنة، والشر الذي نقول نعاقب عليه بل و يُدخِل النار.
- وأنّ أفضل المسلمين" من سلم المسلمون من لسانه ويده". كما أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري- رضي الله عنه- فاللهم اجعلنا منهم.
- وأنّ الكلام الذي نقول يعطي دلالة وانطباعا عن عقولنا و شخصياتنا وأخلاقنا: الرزانة واختيار الألفاظ المناسبة والحكمة والصدق والتواضع والعلم...
وفي المقابل: الكذب والثرثرة والتكبر والتفاهة والحسد والطمع وسرعة الغضب... كله وأكثر يظهر من خلال الكلام.
عندما نعرف كل ذلك ونظل نتذكره، فإننا يجب أن نمرّن ألسنتنا ونعينها على الانضباط.
ثانيًا: الإكثار من ذكر الله، لأن ذلك يحمينا من الشياطين التي تزيّن لنا البذيء والفاحش من القول.
ثالثًا: قبل أن نجالس أحدا أو نجتمع مع البعض، نكرر على أنفسنا: سنكون منتبهين ونحفظ ألسنتنا، لن نقول غيبة ولا فحشا ولا كذبا ولا نفاقا... سنكون حليمين متزنين، وسيكون كلامنا حكمة وصمتنا حكمة، وسنعمل أن تكون جلستنا نظيفة طاهرة يرضى عنها الله ورسوله.
رابعًا: إن حدث منا خطأ في الكلام نضع علامة تذكرنا بسوء ما فعلنا، كأن نرسم خطا أسود على ورقة بيضاء تكون قريبة من النظر، فيذكرنا ذلك بزلات ألسنتنا وأخطائه ويعيننا على تربية هذه العضلة(اللسان).
خامسًا: نبتعد بقدر المستطاع عن المجالس التي يتسلى فيها الجالسون بالغيبة والخوض في الأعراض واللهو والجدل، ونجتهد أن نصاحب من يقولون خيرا في مجالسهم.
سادسًا: عندما نستيقظ صباحا نلقي أسماعنا إلى أعضاء أجسامنا وهي ترجو ألسنتنا "إذا أصبح ابنُ آدم فإنَّ الأعضاء كلَّها تكفِّر اللسان فتقول: اتَّقِ الله فينا فإنما نحن بك؛ فإنِ استقمتَ استقمنا، وإنِ اعوججتَ اعوججنا".
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة