الزلازل: بين ظواهر النّقمة، وبواطن النّعمة
لعلّ ما أخبر الله تعالى به، في كتابه العزيز، وما حدَّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما خير دليل، وشاهد على أنَّ ما يصيب العباد من ربّ العباد، له وجهان:
أحدهما فيه خير ورحمة، وإن كان في ظاهره ألم ونقمة، والثاني هو عذاب، مراد أن يصل إلى مستحقيه بعينهم، من دون أن يشمل إلا أهله. وللتمييز هنا نقول أنَّ الله سبحانه، بيَّن أعظم تبيين ما ينبغي معرفته في هذا الموقف، يقول تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}، وقد يكون ذلك الابتلاء، ذهاب المال والأهل والولد.
وليس بالضرورة أن يكون غضبًا من الله تعالى، على عباده المبتلين، وإنّما هو اختبار وامتحان؛ لأن في ختام الآية يقول عزّ وجلّ: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وليس لأيٍّ كان، أن يكون من أهل العزم إلا من ملك الصبر والتقوى معًا.
هذا الابتلاء له وجهان من الوجوه، الأول أنه نعمة، لأنّ فيه تمحيص وتنظيف، وفيه ما ينبغي، فيه الوصول إلى الصفوة والقدوة من عباد الله في امتحان القبول، وأما الوجه الآخر لهذا الابتلاء فهو النقمة على من أعرض واعترض ومن لم يتسلّح بسلاح الصبر في مواجهه النكبات والبليّات وما أكثرها، وما أكثرهم.
وأمّا البلاء، فإمّا أن يأتيَ لقوم عصاة مذنبين يتقدمهم أهل الكفر والنفاق، فيأخذهم العذاب عنوة، بعد أن أقام الله عليهم الحجة، ولم يعطوا لرُسل الله إليهم أذن صاغية، قال تعالى في مثل هؤلاء: {ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}.
وأما النوع الثاني من البلاء، فهو شامل لأطايب الناس وأراذلهم، ومثل ذلك البلاء يكون الغاية منه تحريك الصالحين ليكونوا مصلحين وألّا يكتفوا بصلاحهم، فإنّ ذلك لا يمنع عنهم أن يصيبهم ما أصاب العصاة من بينهم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وهو ما أشار إليه رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، عندما سألته السيدة زينب رضي الله عنها: "قالَتْ: فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنهْلِكُ وفينا الصّالحونَ؟! قالَ صلّى الله عليه وسلم: نعَمْ إذا كثُرَ الخبَثُ". وفي حديث آخر لرسول الأمة صلّى الله عليه وسلم: "والَّذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتنهَوُنَّ عن المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللهُ يبعثُ عليكم عذابًا منه ثمَّ تدعونه فلا يستجيبُ لكم".
ومن وجوه النعمة في مثل تلك الزلازل، إظهار قدرة الله تعالى في إخراج الحيّ من الميّت والميّت من الحيّ، وقد شاهد العالم برمّته كيف أنّ المسعفين قد أخرجوا المولودة الحيّة تصرخ بالحياة، وأمها قد استكانت روحها لخالقها، وبالمقابل فإنّ هناك من ماتوا، وقد كانت الحياة تدبّ في أوصالهم، فأصبحوا في عالم الموتى راقدين.
وهناك ممّا ينبغي بيان النعمة فيه، كيف أنّ الله سبحانه، بيّن الأحوال العصبية الشديدة في نفوس المؤمنين، وهم يواجهون العدو، وقد وصف حالهم بأنه كان يشبه الزلزال في القلوب. قال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}، وقد لا تخرج النعمة أحيانًا إلا من بين فوهات البنادق أو أسنّة الرماح، ولا يدرك العبد آثارها إلا بعد أن تدركه الكربات العظيمة فيها.
ومن شاهد كيف أنّ العمارات تتهاوى وكأنها ألعاب دمى، والأرض تتمايل بأصحابها، لا بدّ أن يكون في ذلك نعمة له ليزداد إيمانًا بقدرة الله تعالى، وبأن اليوم الآخر لا ريب في قدومه، والزلزلة الكبرى حين تخرج الأرض أثقالها، ويقول الإنسان ما لها.
هو قد قالها قبل، في مثل هذا اليوم الذي نراه في دُنيانا، ولكن إن كان مؤمنًا فسوف يزيد ذلك في إيمانه إيمانًا، وإن كان فاسقًا عاصيًا فسوف يرده إلى صوابه، وإلى فطرته، ويوقظ في وجدانه عوامل الإياب والرجوع، والإنابه إلى حيث ينبغي الرجوع إليه.
والزلازل وإن كانت في ظاهرها عوامل أرضية، وأحوال جيولوجية، فإن لها وجهًا من وجوه العذاب الإلهي، وليس لأحد أن يقول وما ذنب الأطفال، والنساء، والعجّز ليكونوا تحت التراب، وهم يصارعون الموت تحت الركام؛ فإنّه وإن كان ممّا ينبغي للعبد، أن يسأل الله السلامة من مصارع السوء، وسوء المنقلب، وأن يسأل العبد ربّه أن يعيش عيشة سوية وأن يموت ميتة مرضية، إلا أن ذلك لا يغيّر في ما قضاه الله وقدره في الأزل، وإن كان ممّا ينبغي قوله أنّ الله سبحانه كما لا يرضى لعباده الكفر، وإن ترك لهم الاختيار، فهو سبحانه لا يرضى ما تقترفه أيدي الناس، من ضرب البنيان بتجارب القنابل العظيمة الأوزان، مما يجعل الأرض المسكونة عرضة للاهتزاز، كل حين وأوان، ويعجل في الوصول إلى مثل هذه الزلازل، والنكبات بين بني الإنسان.
ولا بدّ من القول هنا أن ما شاهده العالم من أثر الزلزال المدمر، والذي بلغ عظيم أثره في القلوب، ما لا يمكن وصفه من الألم والحزن والأسى، إلا أنّ له أيضًا وجوه اعتبار تزيد في إيمان من كان عندهم عظيم أثر وافتكار.
وذلك بما شاهده العالم من قدرة الجبّار في تقدير عيش أطفال، صاروا في خنادق من الغبار، وغطّت أجسامهم الطرية الخنادق والأحجار، وهم بلا زاد ولا قوت بين ليل ونهار، ومع ذلك كله خرجوا من بين كل ذلك وهم على قيد الحياة مشرقة وجوههم كالأقمار، فسبحان من سبّح بحمده كل شي؛ وله الحمد في الإعلان والإسرار. نسأل الله السلامة والعافية يارب من كل بلاء وأن يلطف بعباده ويجيرهم بفيض قدرته.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة