1 مفهوم الحرّية في ضوء النظريّات العلميّة الحديثة
مقدّمة:
العلوم التجريبية والحرّية موضوعان مختلفان كلّيا، فالعلوم الطبيعية التجريبية مجالها الطبيعة فقط من مادة وطاقة وبيانات، تعمل بالملاحظة والقياس، وتبني نتائج لتصل لقواعد وقوانين ونظريات تساعد الإنسان على معرفة ما يمكن أن يحصل عند اجتماع أسباب طبيعية معيّنة، بينما الحرّية هي قيمة تنتمي للنقاش الفلسفي والأخلاقي والديني والقانوني والاجتماعي خارج حدود القياس والتجارب المخبرية الدقيقة.
فالحرّية غير قابلة للقياس الدقيق والتعريف بشكل كمّي، وليس لها وحدة قياس. الحرّية مادة فكرية يتداولها الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع والتربية ولا يتداولها علماء الفيزياء والكيمياء والأحياء.
ولكن لكل واحد منها تأثير على الآخر، فالتجارب العلمية بحاجة للحرّية لأداء التجارب واستخلاص النتائج. ونتائج التجارب وما يتولّد منها من فرضيات ونظريات وقوانين قد تؤثر في الفلسفة والأخلاق الشخصية ونظرتها للحرية.
في ورقتي هذه، سأحاول إظهار كيف يمكن لكل منهما التأثير على الآخر، وإن كانت النتائج التي يصل لها بعض العلماء التجريبيين حاسمة في مجال إثبات مفهوم الحرّية، وأقوال الفلاسفة المادّيين المتأثرين بنظريات العلوم التجريبية وهل يمكن فعلا وصفها بأنّها نتائج مبنيّة على العلم الطبيعي بشكل ثابت، أم هي خيارات شخصية قائمة على أفكار مسبقة وعوامل أخرى.
العلوم التجريبية:
العلم التجريبي، المعروف أيضاً بالبحث التجريبي، يشير إلى طريقة منهجية ومعتمِدة على أدلّة مرصودة ومحقّقة لدراسة الظواهر في العالم الطبيعي (المادّي فقط). وينطوي على جمع البيانات من خلال المراقبة والتجربة والقياس لتطوير واختبار الفرضيات، واستنتاج النتائج والتنبؤ بما يتعلق بالظواهر المرصودة. يعتمد العلم التجريبي على الأدلة الموضوعية والقابلة للتحقق، وتكون نتائجه معرّضة للفحص والتحقق من قبل باحثين آخرين. "يشمل العلم الدراسة المنهجية لبنية وسلوك العالم المادي والطبيعي من خلال الملاحظة والتجربة".
ولا يوجد في العلوم التجريبية اختصاص يتناول الحرّية بمعناها العام. ستجد في مجال العلوم التجريبية مصطلح درجة الحرّية لكنه يشير إلى الاحتمالات المتاحة لمكوّن فيزيائي أو خاصّية ّفيزيائية ما للتحرّك أو التحوّل، وفي علم الإحصاء يشير إلى عدد المتغيّرات الموجودة في أي معادلة. وليس لهذا المصطلح علاقة بموضوع الحرّية بمعناه الفكري الواسع.
تأثير الحرّيّة على البحث العلمي:
البحث العلمي بحاجة لحرّية على أصعدة عدّة من مالية ومكانية وتعبيرية للعمل بشكل مستقل وغير مسيّر. الحرّية في التقدّم العلمي مطلب أممي ورد بعدّة مواثيق منها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" كما في المادة 27:
"1- لكلِّ شخص حقُّ المشاركة الحرَّة في حياة المجتمع الثقافية، وفي الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدُّم العلمي وفي الفوائد التي تنجم عنه.
2- لكلِّ شخص حقٌّ في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتِّبة على أيِّ إنتاج علمي أو أدبي أو فنِّي من صنعه."
والتاريخ يذكر لنا كيف منعت الكنيسة تداول كتاب كوبرنيكس الذي تحدّى فيه فكرة مركزية الأرض، ولم يتكلم بها بعده في أوروبا إلّا غاليلو بعد مئة سنة واستجوبته الكنيسة الكاثوليكية لمعرفة أفكاره ومنعت كتابه أيضا من التداول.
وفي بداية القرن العشرين في روسيّا نشر ليسنكو علما زائفا في فرع الوراثة، ولقربه من ستالين، عطّل الأبحاث التي كان يقوم بها علماء روس آخرين بناء على نظرية مندل (الراهب الأباتي) الوراثية. تسلّط ليسنكو على الوسط العلمي ساهم بتأخر روسيا في مجال علم الأحياء الزراعي.
تأثير العلوم على الفلسفة بشكل عام
مثال نقله أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في كتابه التهافت عن بعض الفلاسفة قولهم: "وقد قالوا إن السماء حيوان وإن له نفساً نسبته إلى بدن السماء كنسبة نفوسنا إلى أبداننا، وكما أن أبداننا تتحرك بالإرادة نحو أغراضها بتحريك النفس فكذا السماوات"... وحجّتهم كما نقلها "كل متحرك إما أن يكون قسرياً أو طبيعياً أو إرإدياً" ... ونقل عنهم أنّه لا يمكن "أن يكون طبيعياً لأنه يعود إلى المكان المهروب عنه. فهو إذًا إراديّاً" وردّ عليهم رحمه الله، ولكن الآن طلّاب المدارس بما لديهم اليوم من علوم عن جاذبية كتل الأجرام السماوية يردّون هذه الفلسفة بسهولة.
ومن أقدم الفلسفات المتعارضة التي يحتج أصحابها بالنظريات العلمية المعاصرة هما فلسفتا الحتمية (Determinism)، واللاحتميّة (Indeterminism)، واخترت الكلام عليهما لأنهما الأساس في مباحث إثبات ونفي الإرادة الحرّة التي هي بدورها أساس لمبدأ الحرّية.
الحتمية:
سأقتصر على الحتميّة العلمية السببيّة وهي مادّية، كي نرى تأثير النظريات العلميّة عليها. ذكرت سابقا أن منهج البحث العلمي يفترض وجود قوانين في الطبيعة ويعتمد حقائق عامّة ومسلّم بها منها السببيّة. وبالتالي في البحث العلمي لكل حركة أو تغيّر أو ظهور في الطبيعة سبب. وبالتالي أي أمر يحدث فلا بد من أن يكون له سبب أو أسباب، سواء تمكنّا من حصرها أم لم نتمكّن. ولهذه الأسباب أسباب حتى نعود لبداية الكون. فالحدث الذي بدأ الكون به كان سببا لظهور أسباب تفاعلت مع بعضها لظهور أسباب مركّبة حتى يومنا هذا. وبما أن العقل هو فعل ينتجه الدماغ، حسب الفكر المادّي، فحركة التواصل العصبي والشرارات العصبية هي أيضا نتيجة معقّدة من نتائج بداية الكون، وبالتالي كل ما حصل ما كان ليحصل بطريقة أخرى، وكل ما سيحصل لن يحصل إلّا بطريقة واحدة.
والحتمية، بمعناها العام، موجودة في المجتمعات عبر التاريخ بعدّة صور، منها عقيدة الإيمان بالقدر خيره وشرّه، ومنها الجبرية، وتكلّم بها أو ببعض وجوهها قديمًا فلاسفة اليونان نفيًا وإثباتاً منذ أيام أرسطو وأبيكوروس والرواقيين. ولكن الحتمية العلمية الحديثة ظهرت بقوانين الحركة التي سطّرها إسحق نيوتن في القرن السابع عشر، وكثر أنصارها من العلماء وفلاسفة العلم، وفي بداية القرن التاسع عشر كتب الفيلسوف الرياضي لابلاس: "قد نعتبر الحالة الحالية للكون نتيجة لماضيه وسبب مستقبله. العقل الذي يعرف في لحظة معيّنة جميع القوى التي تحرّك الطبيعة، وجميع المواقف لجميع العناصر التي تتكوّن منها الطبيعة، إذا كان هذا العقل كبيرًا بما يكفي لتقديم هذه البيانات للتحليل، فسيختصر في صيغة رياضية واحدة حركات أعظم أجسام الكون وحركات أصغر ذراته؛ لهذا العقل لن يكون هناك شيء غير مؤكّد والمستقبل تمامًا مثل الماضي سيكون حاضرًا أمام عينيه."
اللاحتمية:
وهنا سأتكلّم عن أخف أنواع اللاحتمية التي تثبت السببية في أكثر الأمور إلّا على نطاق الجزئيات الصغيرة جدًّا، أي بحجم الألكترون وما دون. وهؤلاء استندوا على استنتاجات علماء فيزياء الكمّ (Quantum Physics).
أدوات وأساليب القياس والملاحظة المستخدمة في هذا المجال محدودة جدًّا لصغر الجزئيات المراد دراستها، فحتى جزئيات الضوء (الفوتونات Photons) ستتفاعل مع هذه الجزيئيات وتؤثر بها، وبالتالي هناك صعوبة في دراسة هذه الجزئيات دراسة دقيقة كما في فيزياء الأجسام الأكبر حجما. مراقبة هذا العالم الكمّي أظهر أن بعض الجزيئيات وموجات الطاقة تظهر وتختفي عشوائيا. هذا جعل فيزيائيي الكمّ في القرن العشرين يؤمنون بمبدأ الاعتماد على صِيَغ الاحتمالات الرياضية في عالم الكم، ممّا أدّى بأينشتاين، معارضا هذا الاستنتاج، لقول كلمته الشهيرة التي كتبها بإحدى رسائله لزميله ماكس بورن سنة 1926: "أنا، في جميع الأحوال، مقتنع بأنه (أي الله) لا يلعب بالنرد."
كتب ورنر هاينزبرغ (أحد آباء ميكانيكا الكمّ) في بحثه (مبدأ انعدام اليقينUncertinity Principle): "يصبح قانون السببية غير قابل للتطبيق لأنه من المستحيل من حيث المبدأ معرفة الحاضر في جميع بياناته المحدّدة". قد يقصد هاينزبرغ الاستحالة بسبب حجم المعرفة المطلوبة وقصور أدوات القياس، ولكن أنصار اللاحتمية اعتمدوا على مبدأ أن فيزياء الكم تدل على وجود اللاحتمية (الإنسلاخ من السببية) في الكون.
الإرادة الحرّة
أتباع فلسفة الحتمية أنقسموا فريقين، فريق يرى أن الحتمية لا تتعارض مع الإرادة الحرّة(compatibilist)، وفريق يرى أن الإرادة الحرّة هي مجرّد وهم لا حقيقة له (Inompatibilist). ويمكن فهم الخلاف حسب نقطة انطلاق كل فريق.
الفريق الذي لا يرى تعارض يعرّف الإرادة الحرّة بالخيارات والأفعال التي يقوم بها الشخص دون تهديد أو إغراء وبكامل قواه العقلية، وبالتالي عليه تحمّل تبعات خياراته، وإن كانت خياراته لا شك مبنية على أسباب.
الفريق الذي يرى تعارضا انطلق بأن كل خيار نقوم به هو حتمي وبالتالي ليس خيارا حقيقيا. ومن الأمثلة الفجّة لأتباع هذا الرأي سام هاريس، عالم الأعصاب الأمريكي وأحد رؤوس الدعاة إلى الإلحاد. له كتاب اسمه الإرادة الحرّة Free Will، وفي مقدّمة الكتاب يذكر جريمة اقتحام وسرقة مروعة انتهت بموت فتاتين حرقا بالإضافة للتعدّي على الوالدين، ولكنّه يقول أنّه لو كان مكانهما، ذرة بذرة، لما استطاع أن يفعل أي شيء مغاير لما فعلوه. وفي كتابه يرى أن كره الظلمة والمجرمين ومعاقتبهم هو أيضا مجرّد نتيجة لإجرامهم وليس منبعه أخلاقا موضوعية، ولكن يظهر على شكل حكم أخلاقي بنشر الخير ومحاربة الشرّ.
أتباع اللاحتمية المادّية، يقولون بان الطبيعة نفسها ليست حتمية على كل الصعد، وبالتالي فإن عمل الدماغ سيتأثر بهذه التحرّر من الأسباب كونه يعتمد على موصّلات عصبية تعتمد جزيئيات صغيرة، فلا يخضع للسببية، ولهذا، نفس الأسباب قد تؤدّي لاختيارات مختلفة من نفس الشخص.
والرد على الفرق كلّها أنها تنطلق بداية من عقيدة لا دليل عليها وهي أنه لا يوجد في الوجود إلّا المادة بجميع تجلّياتها، ففريق الحتمية الذي يتبنى مبدأ الإرادة الحرّة حصر هذه الإرادة بالأسباب المادّية فقط، وفريق الحتمية الذي يعارض مبدأ الإرادة الحرّة أنكرها لأنه جعل لكل خيار أسباب لن تؤّدّي إلى غيره وبالتالي ليس خيارا أساسا، فهل إن تصرّف الإنسان بشكل عشوائي يكون صاحب إرادة حرّة؟ والفريق الأخير الذي يقول بمبدأ الإرادة الحرة بناء على اللاحتمية، وانعدام السببية في عالم الكمّ قد وقع في نفس الخطأ وهو جعل الإرادة الحرّة مبنيّة على العشوائية. وكلّهم يستدل بنظريات ومسلّمات العلمية، ولكن يصلون لاستنتاجات متعارضة.
نحن
نؤمن بالله ربّا وبالملائكة والجنّة والنار والجنّ وكلّ هذا خارج نطاق البحث العلمي، ونؤمن بالقدر الذي جعل الله فيه أسبابا مادّية وغير مادّية، كلّها تابعة لمشيئة الله وقدرته. ونحن وإن كانت أعمالنا مقدّرة لنا، ولكن عند فعلها تكون باختيارنا لعدم علمنا المسبق بقدر الله عزّ وجلّ، ولتوفّر خيارات أخرى أمامنا في كلّ أمورنا، فنحن مسؤولون عن خياراتنا إلّا ما كنّا عليه مكرهين أو غير واعين لعارض أصاب عقولنا من مرض أو سكر أو نحوه. قال الله عزّ وجلّ: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29). ولمن يساوره شك أو وسوسة بأن هناك تعارض بين القدر والإرادة الحرّة (أو التكليف الشرعي)، أقول له أن إحصاء حصل في 2020 ل 1758 دكتور جامعي في أقسام الفلسفة في جامعات العالم أظهر أن 59.16% منهم لا يرون التعارض بين الحتمية والإرادة الحرّة، فكيف بنا نحن المسلمين، ألا نؤمن بكلام ربّنا؟
خلاصة
مبحث الحرّيّة لا يدخل ضمن نطاق منهج البحث العلمي التجريبي، والعلماء التجريبيّون، الذين ليس لديهم مآرب غير علمية، كنشر كتاب شعبيّ، أو التصدّر الإعلامي لا يخوضون في هذه المسألة، ومن خاض بها منهم لا يخوض إلّا بكلام خارج حدود اختصاصه. العلماء التجريبيون يشغلون أنفسهم بتطبيق نظريات فيزياء الكم ولا يشتغلون بتفسيرها، أكثرهم يتركون التفسير للعاملين في مجال الفسلفة.
وكما أنّ النظريات العلمية يستعين بها أصحاب الأفكار
المختلفة، فهي نفسها أحيانا لا تكون محلّ اتفاق بين العلماء التجريبيين.
كما أن أتباع اللاحتمية وإن أنكروأ السببية أو بعضها فكرا، فلا بد أنّهم بحياتهم اليومية يتخذون الأسباب، ومنكري الإرادة الحرّة لا بد أنّهم يرفضون التعدّي على حرّياتهم ويعملون وفقا لخياراتهم الشخصية.
وحصر الوجود بالمادة غير ممكن عقلا لكون المادّة نفسها لا بد أن يكون لها سببا في حدوثها.
والإرادة الحرّة عند الإنسان هي من البديهيّات وأساس "الأنا" عند كلّ منّا، وإنكار البديهيات عبثيّة فكريّة.
والله أعلم.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
التحليل النفسي لرسومات الأطفال
رسالة الشعر
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!
عامٌ مَرّ..
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب! الجزء الثاني