تُثبت اللّغةُ العربيّة في كلّ يوم، أنّها أقوى من سلاسل القيود، ومن حواجز الحدود، ومن زلازلِ الوجود، فهي قويّة الـمِراس، لا تقبل الرُّكون، ولا تخضع للـمَنون، رغـم كثرة الأعداء، وتربُّص الـمتربّصين، ورَغم ضَعفِ القرار السّياسيّ في صونِها، وفي اعتبارِها مِلفًّا لا يجوز الـتّفريطُ به. هي تصارع وتتحدّى في كلّ حين... ولا تَلين.
وإنّ الـصّراعَ إذا تحرَّك في الإنسانِ نفخَ فيه العزم، وبعثَ روح المواجهة، وأيقظ كوامِنَ الـهمّة، وصوّب مسارَ الطّموح، لأنَّ الصّراعَ من فِطرةِ الإنسانِ، فقد قرّر ابن خَلدون (732ه/1332م- 808ه/1406م) في مقدّمته أنّ العُدْوانَ طبيعيٌّ في الإنسان، وأنّ اللهَ قد جعل له الفكرَ واليدَ لمواجهته. أمّا المفكّر الفرنسيّ بليز باسكال (1623-1662م) ، فقد رأى أنْ لا شيء يَرُوقُنا كمشاهدة الصراع. وقال الأستاذ جان ماري بيليت رئيس المعهد الأوروبيّ لعلم البيئة، في كتابه "عودة الوفاق بين الإنسان والطّبيعة": "ينبغي البدءُ بقبول النـِّزاع على أنّه واقع جوهريّ من وقائع الحياة، ثمّ تحمُّلُ مسؤوليَّتِه...".
ويقتضي هذا الصّراع أو الـتّحدّي أن نستطيع مسايرة التّطوّر المتسارع، ومنه ما نسمّيه بـ"الرّقمنة". والرَّقمنة تعني الولوج إلى عالم جديد من المستحدثات العلميّة، والمهارات الآليّة في تحصيل المعرفة. وهذا أمر لا بدّ منه، غير أنّه يقف بنا أمام بعض المحاذير، لأنّه قد يضعنا في مواجهة إعصار العولمة، الّتي ذرَّتِ الرّمادَ في العيون، وسحرت أعين النَّاس، واسترهبتهم.... وَعَدَتْ فأَخْلَفَتْ، وحدَّثَتْ فكَذَبَتْ، وأْتُـــمِنَتْ فخانت.... ثمّ خاصمت ففَجَرَتْ!
ولذلك يجدُر بنا دومًا أن نذكّر طلّاب اللّغة العربيّة أنّ لغتنا اليوم في نعمة وافرة، في ظلال الرّقمنة، لإبقاء جذوة الـتّحدّي، وتعزيز روح الانتماء، وبَسْطِ رُقعة الـتّفاؤل.
ولا يغترّ أحدٌ بتفوّق اللّغة الإنجليزيّة، فهذا صمويل هنتغتون (1927- 2008م) أثبت في كتابه "صدام الحضارات" أنّ القول بعالميّة اللّغة الإنكليزيّة ما هو إلّا وهم كبير، وأضاف: إنّ لغةً تعـد أجنبيّة لدى 92% من سكّان الأرض لا يمكن أن تكون عالميّة. ونقول: ما أجمل هذا الانطباع، على الرّغم من أنّ 80% من الصّفحات المتوافرة على الشّبكة العنكبوتيّة مكتوبة بالإنجليزيّة، كما يقول د.محمود السّيّد في بحث له عنوانه "التّمكين للّغة العربيّة: آفاق وحلول".
وللمرء أن ينظر إلى الشّبكات العنكبوتيّة وما فيها من منتديات متخصّصة ورسائل سريعة ومحادثات مباشرة، وله أن ينظر إلى الحواسيب المعقّدة وما فيها من برامج مُربِكة وأدوات مكتبيّة وتقنيّات بحثية، وله أن ينظر إلى الهواتف الخلويّة ذات الوظائف الشّائكة والجداول الرّقميّة والوسائل السّمعيّة والبصريّة، وسيرى المرء بعد هذا كلّه- وما ذكرنا إلّا غيضًا من فَيض- أنّ لغتنا عبَّرت عن أدقّ تفاصيل البرمجة الكاملة، والتّوليف الـمُحكَم، بوضوح تامّ.
والأطبّاء والـمهندسون وذوو الاختصاصات التّقــنيّة ما فتئوا يكتبون الكتب والمقالات الّتي تتناول علومهم، باللّغة الّتي نشؤوا عليها، دون أيّ عائق. والمكتبة العربيّة باتت غنيّة بمعاجم متخصّصة متطوّرة، ترصد المصطلحات العلميّة الحديثة، وما يقابلها من ألفاظ عربيّة. فلماذا افتعال العجز؟
وقال المدير العامّ المساعد للمنظّمة الإسلاميّة للتّربية والعلوم والثّقافة (الإيسيسكو)، عبد العزيز التّويجريّ في كتابه "مستقبل اللغة العربيّة": "ولم تعرف اللّغة العربيّة عبر تاريخها الطويل ما تعرفه اليوم من سرعة في النّموّ واندفاع في التّطوّر ومسايرة المتغيّرات... لعلّ أقواها تأثيرًا النّفوذ الواسع الّذي تمتلكه وتمارسه وسائل الإعلام..."
وقد استطاعت الإيسيسكو أن تنجح نجاحًا كبيرًا في تحقيق تنميط، أي وضع نـمط عربيّ للحروف، لكتابة إحدى وعشرين لغة من اللّغات الإسلاميّة الّتي تتحدّث بها الشّعوب الإفريقيّة المسلمة. وكذلك قامت، بالتّعاون مع معهد الأبحاث والدّراسات بالرّباط، بصناعة آلة كاتبة جديدة لطباعة هذه الحروف المنمَّطَة.
وقد لفت أنظار المتابعين ما سطّرته صحيفة الإندبندنت: "اللّغة العربيّة هي لغة المستقبل في بريطانيا".
واللّغة العربيّة أصبحت تحتل حاليًّا المرتبة الرّابعة بعد الإنجليزيّة والصّينيّة والإسبانيّة بين اللّغات الأكثر استخدامًا في الشّابكة، والمرتبة الثّانية بين أكثر اللّغات نموًّا، والتّاسعة بين أكثرها استخدامًا على موقع فيسبوك. هذا ما ذكره عبد السّتّار محفوظ (المترجم في الأمم المتّحدة)، في دراسة بعنوان "اللّغة العربيّة في الأمم المتّحدة"، ضمّنها موقع الأمم المتّحدة، صفحة اليوم العالميّ للّغة العربيّة.
ومع ذلك لا بدّ من وضع نِقاطٍ رشيدة تهيّئ لنا المزيد من اقتناص الثّمرات الطّيـّبة في الرّقمنة، وهذه النِّقاط سلسلة خطوات إجرائيّة ينبغي أن تقوم بـها الهيئات الأكاديميّة المسؤولة عن اللّغة العربيّة، وأن تُلحّ على الجهات الرّسـميّة أن تتبنّاها:
- ينبغي أن تتقولب المناهج قولبة جديدة تراعي حاجات السّوق العربيّة، ومهارات العمل المختلفة، كي لا يكون أنّ قسم اللّغة العربيّة في أيّ جامعة يحصر جهده في تخريج مدرِّسين، مع أهـمّيّة هذه الرّسالة. لماذا لا نفكّر في تخطيط منهجيّ لإعداد مترجمين معتمَدين في هيئات دوليّة وإقليميّة، ومدقّقين مميَّزين في دور نشر ومحطّات فضائيّة، ومُذيعين مُفَوَّهين، ومُدَبْلِجِينَ فُصحاء، ومديري مِنصّات لغويّة تعليميّة، وصانعي ألعاب إلكترونيّة لغويّة... إنّه الاستثمار الرّابح في حقل اللّغة.
- ويجب تعزيز المسار المهنيّ في الدراسة والبحث، لينافس بقوة المسار البحثيّ في التّخصّص اللّغويّ، فاللّغة مهارة وانطلاق وتعبير وتفاعل، قبل أن تكون نظريّات ومعايير. لا بدّ أن تتواتر الدّراسات والرّسائل والأطاريح بشأن قضايا ميدانيّة في قاعات التّدريس، وفي دور الـنّشر، وفي الغرف الخلفيّة للمسارح وغرف الـتّمثيل، وفي الأسباب غير الجسديّة لانحرافات الـنّطق عند الأطفال....
- ولا بدّ من توجيه الموادّ التّعليميّة والأبحاث العلميّة نحو معالجة قضايا مرتبطة باللّغة والحضارة الرّقميّة، ومنها: دراسةُ الخصائص اللّغويّة في منشورات مواقع الـتّواصل الاجتماعيّ- حيّزُ الاهتمام باللّغة العربيّة في المنصّات العالميّة- المصطلحاتُ العربيّة المستخدمة في إعدادات الصّفحة في مواقع الـتّواصل الاجتماعيّ- المصطلحاتُ العربيّة المستخدمة في إعدادات الهواتفِ الذّكيّة- المصطلحاتُ العربيّة المستخدمة في إعدادات الـتّلفاز وجهاز الاستقبال...
- وينبغي إدراج موادّ تعين الطّلّاب على التّعرّف إلى التّطبيقات اللّغويّة في الهاتف وفي الحاسوب، لترشيد أدائهم التّعليميّ مستقبلًا، ففي هذه الـتّطبيقات معاجم، وبرامج ترجمة سريعة، وبرامج تصريف أفعال، وبرامج تقطيع عروضيّ، وألعاب إلكترونيّة ذات طابع لغويّ...
- ينبغي الـتّركيز على الجوانب الـتّطبيقيّة والميدانيّة في كلّ المواد التّعليميّة، ضمن الكتاب، وضمن وسائل الإيضاح، وضمن وسائل الـتّقييم والاختبار، وذلك بدلَ استغراقِ الوقتِ في حشوِ الأدمغة وإتخامِها بالمعلومات عبرَ موادَّ نظريّةٍ، باتت تفي بغرضها محرّكاتُ البحث الرّقميّةُ، ولا نَبخَسُ الذّاكرة البشريّة العلميّة الـمشبَعة بالمعلوماتِ، حقَّها. وهذا الأمر- لو طُـبّق- ينشئ جيلًا جديدًا يعيد تشكيل عقله، وبثّ روح الاكتشاف فيه.
- ينبغي تدريب الطّلّاب علـى تصفّح المواقع اللّغويّة: المجامع والمنتديات ولجان ترجمة المصطلحات العلميّة، لمواكبة كلّ جديد، والـتّحليق في الفضاء الرّقميّ، بأجنحة من ذَهب.
- يجب أن يكون جزءٌ من الاختبار في الجامعات اختبارًا بواسطة الحواسيب والمواقع الإلكترونيّة: إنجاز عرض شرائح- إعداد فيديو- ترجمة محادثة في شريط مصوّر- محادثة أديب عبر مواقع الـتّواصل...
- ينبغي تحديث تِقنيّات كتابة البحث، والانتقال من تدريس الطّلّاب أساليب الــتّقميش في بطاقات، إلى تدريسِهم تِقنيّات الطّباعة في برنامج word، وإعدادَ الحواشي فيه، وتدريسِهم كيفيّةَ استخراج المعلومات من المواقع المعتمَدة في الشّابكة، عبر محرّكات البحث المختصّة بالدّراسات البحثيّة، والتّحكّمِ بالملفّات المصوّرة pdf...
كلّ هذه الـنّقاط تقتضي أن نعانق الرّقمنة بمحبّة خالصة تنبع من ذواتنا، لا بإيحاءات خارجيّة أقلُّ ما يقال فيها أنَّـها مشبوهة، لا بدّ أن نضع نحن مناهجنا، ونبنيها على تصوّراتنا، على فلسفة تربويّة محكمة، تستبقي التّراث شامةً في خدّ قيمنا، وترفع اللّغة صولجانًا في أيادي فِتيتنا، وتمدّ الأعناق إلى غدٍ مشرقٍ متجدّد، شمسه لا تغيب .
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة