د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن
مقدِّمة لا بُدَّ منها...
لمّا نزلت: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ* خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ* ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ* ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ* عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ﴾ [العلق:١-٥] كأوّل ما نزل، بدأ عدّاد التغيير والتحوُّل في حياة الإنسانية.. بمعنى أنّ المعرفة مثَّلت الفريضة الأولى في هذا التغيير والتحوُّل. وتحدَّدت في هذا النزول الأوَّل أوَّل هذه المعرفة وهذه القراءة، ألا وهو معرفة الإنسان نفسه، باعتباره العنصر الفعّال والمُؤثِّر في الحياة، والصانع للتغيير والحضارة، يندرج في هذه المعرفة معرفة الحياة والكون كأسباب مُيسَّرة ومُسخَّرة لهذا الإنسان في أداء رسالته، وبلوغ أمانيه وغاياته. وغاية هذه المعرفة أن توصل إلى المعرفة الأعلى والأعظم، ألا وهي معرفة مصدر هذا الخلق، وهذا الوجود.. الخالق سبحانه وتعالى، وهو الأمر الذي نبَّهت إليه الآيات؛ حيث ذُكر خلق الإنسان دليلًا وشاهدًا على من خلقه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ* خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ﴾..
وهذه المعرفة مهمّة وضروريّة بالنسبة للإنسان المسلم، لأنّها تُعرِّفه حقيقة نفسه، وطبيعته، ومركزه وقيمته في هذا الكون، وغاية وجوده ومعناه، ودوره المنوط به ومسؤوليّاته، وحدوده وحدود اختصاصاته، كما تحدِّد علاقته بخالقه، وعلاقاته مع جميع المخلوقات. هي معرفة ضروريّة لأنّه بناء عليها يتحدَّد منهج حياته، ونوع النظام الذي يحقِّق هذا المنهج الذي لا بُدَّ أن ينبثق منه انبثاقًا ذاتيًّا. وضروريّة لأنّ هذا الدين الصادرةُ عنه هذه المعرفة جاء لينشئ أمّةً ذات طابع خاصّ متميِّز متفرِّد، أمّةً جاءت لتكون شاهدة على الناس، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإنقاذ البشريّة من الأفكار الضالّة.
إنّ هذه المعرفة بما تتضمَّنه من التصوُّرات الاعتقاديَّة تمثِّل أداة التوجيه الكبرى، إلى جانب النظام الواقعي الذي ينبثق عنها، ويقوم على أساسها، ويتناول النشاط الفرديّ كلّه، والنشاط الجماعيّ كلّه، في شتّى حقول النشاط الإنسانيّ[1]. ومصدرها الأوّل هو القرآن الكريم، كلام من خلق الإنسان الأعلمِ به، ورسالته الخاتمة إليه، وكلمته التفسيريَّة لنظام هذا الوجود والعلاقات الكونيَّة وطبائع المخلوقات فيه، هو الكتاب الهادي إلى التي هي أقوم في الفكر والمعرفة والسلوك والعمران والحضارة، وهو الأساس الأول للمعرفة الإسلاميَّة في شتّى المجالات: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء:9، وهو﴿كِتابٌ أُحكِمَت آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت مِن لَدُن حَكيمٍ خَبيرٍ﴾ هود:1، أنزله عز وجل ﴿تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ النحل:89، وهو الروح الذي يبثّ في الحياة معانيها الحقيقيّة:﴿كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ الشورى:52.
في هذا الكتاب يتعرّف الإنسان على نفسه، من ناحيتين: من ناحية كيف كان: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾ [آل عمران:٥٩]، ومن ناحية كيف ينبغي أن يكون في حياته: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]. وإن شئنا التعبير، فإنّه يعرفه من ابتدائه وتسويته، مرورًا بمسيرته في هذه الحياة الدنيا، انتهاءً بمصيره إلى الحياة الأخرى..
إنّه بحقّ كتاب الإنسان، ومنهج حياته وحضارته منهج إنسانيّ. وكلّ ما ينبع منه وما ينبثق عنه وما يوجّه إليه هو للإنسان، فهو محور بيانه؛ عليه يدور القول في سائر أغراضه، وإليه تعود المعاني في سائر محاوره وموضوعاته. وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدلُّ على رفيع مكانته، وعظيم شرفه، وتميُّز شأنه من بين سائر المخلوقات وكلّ الموجودات.
وهو الذي قد حارت العقول في معرفته المعرفة الكاملة والصحيحة، إلى حدّ أن ظهرت اتجاهات فلسفيَّةٌ معقدَّةٌ، ومذاهب فكريَّة متعدِّدة، أفرزت بدورها أنظمة للحياة مختلفة، بل نشأ مذهب أُطلق عليه "اللا أدرية" كتعبيرٍ عن العجز عن معرفة حقيقة هذا الكائن الإنساني؟ في حين أنّه معلومةٌ حقيقته الصحيحةُ، متوفرةٌ معرفته الكاملةُ، وواضحٌ تصوُّره الشامل في كلام خالقه سبحانه وتعالى، الذي به تشكَّل الإنسان المسلــم الأول وتكيَّف، فصار منهجًا حاكمًا لتفكيره، وفلسفة مؤطِّرة لحياته، وموجِّهًا لسلوكه، وصابغًا لأذواقه، ومحدِّدًا لعاداته، فاستحقّ به التأهُّل لقيادة البشريَّة وتحريرها من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان إلى عبادة خالق الإنسان، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. فكيف يعرِّف هذا القرآنُ الإنسان بالإنسان؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه السلسلة في حلقات متتابعة بإذن الله وتوفيقه..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن