يوم ماتت المروءة.. في عصر العبابيد!

استوقفني الكثير من المشاهد المؤلمة الموجعة في أرض الكرامة والبطولة في غزَّة هاشم الأبيَّة. كما ما يقابلها من مشاهد النصر والبطولة والفخر والفداء في الجهاد ومقارعة اليهودي الغاشم وأعوانه القريب منهم والبعيد. ولكن من المشاهد المحزنة المؤلمة، التي رأيتها ورآها العالم كلُّه معي، كان في الكلب المسعور النبّاح الشرس الذي أدخله العدوّ اليهودي الحاقد على بيت امرأة مسلمة ليرعبها ويجبرها بعوائه وأنيابه على ترك بيتها، وهي لا تحمل سلاحًا وليست في سنٍّ يسمح بالخوف منها. ولكن ليس ذلك بيت القصيد، وإنّما هو الخوف الذي زرعه الله في قلوب الصهاينة أحفاد القردة والخنازير، حتّى جعلهم يخافون من كلّ ذي شيبة، رجلًا كان أو امرأة، ومن كلّ طفل مولود قد يكون مثيلًا في ولادة من أزال عرش فرعون وتربّى في بيته وأكل من قوته، ولكنّه كان سبب الإجهاز عليه في المستقبل. إنّ من يشاهد هذا المشهد المرعب الذي انتشر للكلب الذي يفتح فاه على صدر امرأة متقدِّمة في العمر، لا يجد فيه غرابة، فهو حقيقة وليس فيلمًا خياليًّا. ولكنّ الغرابة تكمن في أنّه يمكن أن يحدث مثله وأغرب منه في عصر غياب المروءات في أحفاد صلاح الدين وخالد بن الوليد والمعتصم بالله الذي نادته امرأة مسلمة في السوق، بعد أن انتهكوا عرضها ونالوا من كرامتها، فقالت بصوت صدّاح سمعه قلب المعتصم قبل أن تسمعه أذناه (وامعتصماه)، فكان الجواب أن أرسل الخليفة المسلم جيشًا عرمرمًا أوّله عند عدوِّه وآخره عنده ليعيد للمحصنة المؤمنة كرامتها المهانة.
إنّ الغرابة في ذلك المشهد التاريخي ليزول مقارنته بمشهد تلك المرأة المسلمة اليوم في فلسطين، وهي تحت رحمة أنياب الكلب المسعور. ذلك لأنّه لم تعد للمروءة ثمَّة وجود في ظلال من هم يقرأون تاريخهم بعيون عدوِّهم، الذي ملكهم واستحوذ عليهم، وجعلهم ليسوا عبيدًا له ـ فهذا فخر لهم ـ بل جعلهم له عبابيد، وذلك لأنّهم في إصلهم وأصلابهم ليسوا أبناء عزَّة وإباء، بل إنّهم استمرؤوا المهانة من الآباء وأورثوها للأبناء. وصدق فيهم قول الشاعر:
العبد ليس لحرّ صالح بأخ ولو أنّه في ثياب الحرّ مولود
ومن يجد أدنى شكّ أو مبالغة فيما أقوله، فليرجع إلى المشهد الذي تناقلته إحدى وسائل الإعلام لنتن ياهو يغسل يديه بعد أن حاول أحد العبابيد من بلاد المسلمين مصافحته. فهل بعد ذلك أكثر إهانة واستهانة يمكن أن يراها أحد لمن هم في حقيقتهم أنجاس أدناس يتطهَّرون من أيدي من هم في خانة المسلمين، أصحاب دين الطهارة والبراءة. لقد هُنّا على أنفسنا فهُنّا على أعدائنا. وكما يقال فالتاريخ لا يرحم، وسيكتب في صفحاته، كما كتب سابقًا من الأمجاد للأحفاد، سيكتب صفحات مظلمة في تاريخ الأُمّة، تنحني الرؤوس منها خجلًا ويندى لها الجبين شذرًا، أنّ هذه الأُمَّة هي أُمَّة الأمجاد والبطولات والجبال الشامخات الرواسي الثابتات، أُمَّة كتب الله لها عزَّة عمر ـ رضي الله عنه ـ عندما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم يومًا: "ألسنا على حق يا رسول الله إن مِتْنا أم حيينا؟ قال: نعم. قال عمر: فلِم الاختفاء؟" أجل إنّها أُمَّة لا تخرج إلّا في النور ولا تعرف الاختفاء ولا الاختباء في الجحور، إنّها أُمَّة خرجت كيوم خرج المجاهدون من حصونهم واخترقوا حصون أعدائهم في غلاف غزَّة وأوقعوهم بين قتيل وأسير وأذاقوهم كأس الذلّ والتحقير.
وبالمقابل هناك أيضًا من أبنائنا وجلدتنا من لم يذوقوا طعم العِزَّة ولم يرثوها من عمر وأحفاده، وهم قد استمرؤوا الركون ولم يعرفوا أنّ العِزَّة والكرامة من الدين وأنّ الغيرة على دم كلّ امرىء مسلم يسفكه الأعداء تعني الكثير من صفاء دمهم من دنس الخيانة ولحمهم من غذاء أهل المهانة. وأنّ الأعداء يحتقرون حتّى من يكونون خدمًا بين أيديهم وأكياس رمال يمنع عنهم أذى رجال الحق، لأنّ من يكن خوّانًا فقد برأت منه ذمَّة الله ورسوله والمؤمنين، والله تعالى يقول:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾] [27الأنفال.
وقد مرَّ في التاريخ المعاصر مؤيِّدات لذلك فقد استعان القائد الفرنسي المشهور نابليون برجل من أبناء بلد مجاور كان بينهما حرب. ونقل هذا الرجل للامبراطور معلومات عن بلده وجيشه أعانته على كسب المعركة. ولمّا انتهت الحرب جاء هذا الرجل ليأخذ نصيبه من المال جرّاء ما أسداه من معروف، فألقى نابليون له صرَّة من مال من بعيد. فقال الرجل: هل لي أن أحظى بشرف مصافحة الامبراطور؟ فردَّ عليه: هذه (أي الصرَّة) لأمثالك أمّا يدي فلا تصافح من خان وطنه.
ولنا مثَلٌ حيٌّ في بلدنا أيّام تحرير الجنوب، حيث ترك العدوّ الغادر رجال العميل "لحد" في العراء وهرب مع جنوده بين ليلة وضحاها. وفرَّ العميل وجنوده كأمثال الجرذان إلى أرض فلسطين السليبة، حيث عوملوا من اليهود الغاصبين بكلّ مهانة واحتقار. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بُدَّ لمن أراد أن يبيع دينه وأرضه وعرضه ويستهين بحرمات المسلمين، ومنهم المرأة المسلمة التي سلّط عليها عدوّ الله كلبًا من كلابه ينهشها. وهذه واحدة ممّا رأيناه، أمّا ما لم نرَه فهو أعظم منه وأشدّ. فإمّا أن يتحرَّر العبيد من قيود عبوديّتهم ويقولوا ما قاله يومًا جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يومًا للنجاشي: نحن قوم قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام). وإمّا أن يصبحوا أشدّ عبوديَّة من عبوديَّتهم لأعداء ربهم ودينهم وأمَّتهم، ويصبحوا عبابيد. والله أعلم وأحكم والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
قصّة حياة قرآنيّة
التحليل النفسي لرسومات الأطفال
رسالة الشعر
مسرى الأرض ومعراج السماء.. بيان وأضواء!
عامٌ مَرّ..