د. فاطمة الزهراء دوقيه
طوفان الأقصى... إنّ مع العسر يسرًا (الجزء الأوّل)
في غزَّة تحدث كلُّ صور العسر على الإنسان التي يمكنك أن تتخيَّلها…
هناك كلّ الفظاعات والمجازر المروِّعة، والأهوال المفزعة، ومستويات هائلة غير مسبوقة من المعاناة الإنسانيَّة والمآسي.. هناك ترى القتل الذي لا يتوقَّف، والتدمير الممنهج للبنية التحتيَّة الذي لا ينتهي، وهناك ترى الأشلاء التي تتناثر، والدماء التي تسيل، والجراح التي تنزف، وترى الجثث التي تتعفَّن تحت الأنقاض، والجوع الذي ينهش الأبدان، وهناك الخوف والرعب والفزع، والقهر والظلم وكلُّ عذابات الإنسان تتمثَّل هناك.. هناك كلُّ ما يندرج في تعريف الإبادة الجماعيَّة، وربَّما لا يكفي هذا التعبير لوصف ما هنالك في غزَّة .. وربَّما كذلك لو اجتمعت كلُّ لغات العالم لوصف ما يجري هناك.. ما كفَّت وما وفَّت..
في غزَّة احتشدت كلُّ أنواع البلايا والخطوب والشدائد، وكلُّ مشاهد 'الشرِّ المطلق' يعاني منها الناس؛ إذ رأوا كما يصف طه عبد الرحمن "'الصلاة' في بيوت الله تُقصف، و'البراءة' في الطفولة تُزهق، و'العافية' من المستشفيات تُطرَد، و'اللجوء' إلى المآوِي يُرهَب، وقِسْ على ذلك ما شابَهه؛ رأوا بأمّ أعينهم احتضار كلِّ قيم الخير التي خُلق الإنسان من أجلها؛ وليس 'الشرُّ المطلق' إلّا مَشاهِد الموت الذي يأتي على كلِّ القيم" (طه عبد الرحمن في حوار للجزيرة نت،"المقاومة الطوفانية" حركة تحرُّر للإنسان والعالم).
ولقد تحدَّث القرآن الكريم عن هذه الشدائد والمآسي والمحن التي يبتلي بها الله عباده، كأنّما تلك الآيات قد نزلت في وصف وتصوير ما يجري في غزة، كقوله تعالى:﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾[البقرة ١٥٥]؛ حيث يذكر تلك العناصر والمفردات الكبرى التي تشكِّل مشهد الكارثة الإنسانيَّة المؤلمة التي يعيشها أهل 'غزَّة'، من نقص الأموال وهلاكها، واستشهاد الأنفس وفقد الأحباب والأصحاب، والقتل والجراح النازفة، والجوع والعطش، وضروب من الخوف والفزع من العدو، وغير ذلك من المصائب المعتادة في معايش الناس،حيث يخبر سبحانه أنّه يصيبهم بها مؤكِّدًا بصيغة القسم لتوطين الأنفس عليه(يُراجع تفسير المنار).
واللافت وصف كلّ ذلك أنّه: ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ أي بشيء قليل منه وطرف منه، و"بشيء يسير منهما؛ لأنّه لو ابتلاهم بالخوف كلِّه، أو الجوع كلّه لهلكوا، والمحن تُمحِّص لا تُهلِك" (تفسير السعدي)، "وإنّما قلَّل في قوله: (بِشَيْءٍ) ليؤذن أنَّ كلَّ بلاء أصاب الإنسان وإن جَلَّ، ففوقه ما يقلّ إليه، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم" (الكشاف الزمخشري).
وكقوله تعالى:﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَاۤءُ وَٱلضَّرَّاۤءُ وَزُلۡزِلُوا۟ حَتَّىٰ یَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَاۤ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ﴾ [البقرة ٢١٤]؛ وها هنا أيضًا يخبر عزَّ وجلَّ أنّ ممّا جرت به سُنَّته التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، أن يمتحن عباده بالبأساء والضرّاء والمشقّات، التي تأخذ بالألباب، وتزلزل وتخلع القلوب من أنواع المخاوف من التهديد بالقتل والنفي وأخذ الأموال وقتل الأحبَّة وأنواع المضارّ المختلفة، حتّى يصل بهم الحال ويؤول بهم الزلزال إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به، فيقولون: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟؟، وما سؤالهم إلّا لتصوير هول مصابهم، وعظم المدى الذي بلغته محنتهم التي "لن تكون إلّا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: 'مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟' (في ظلال القرآن، قطب).
وهذا الحال من الزلزلة من شدَّة الهول التي يحاط بها الإنسان حتّى الاستيئاس قد ورد ذكره في قوله تعالى الآخر: ﴿إِذۡ جَاۤءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ * هُنَالِكَ ٱبۡتُلِیَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُوا۟ زِلۡزَالࣰا شَدِیدࣰا﴾ [الأحزاب:١١]، فهذه الآية تتحدَّث عن الهول المروِّع الرهيب الذي يزلزل المؤمنين، وحالة الزلزلة التي تصيبهم من عظم كربهم وضيقهم، وشدَّة إحاطته بهم؛ فيظهر أثر ذلك في النفوس وفي ملامح الوجوه وحركات القلوب؛ إذ تعدِّل الأبصار عن مقرِّها، وتذهل وتشخص طامحة، وتخلع القلوب عن أماكنها من الخوف والفزع، فتبلغ إلى الحناجر، فيصل بهم الحال أن يصارعوا الظنون والتصوُّرات: ﴿وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠﴾، التي لا يفصلها عزَّ وجلَّ، وإنّما يتركها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج، وذهابها كلّ مذهب، واختلاف التصوُّرات في شتّى القلوب (يراجع تفسير الطبري، وفي ظلال القرآن لسيد قطب).
ومن مشاهد العسر والمحن الصعبة الآتية من 'غزَّة' مشهد النزوح واللجوء القسري في داخل القطاع، الذي يعني تشرُّدهم ومفارقة منازلهم وأرزاقهم، وفي كثير من الأحيان يعني الافتراق عن أحبابهم وأفراد من عائلاتهم، فكم من زوجة افترقت عن زوجها، وأبناء عن أبيهم، وإخوة عن بعضهم، وابن عن أمِّه، وبنت عن أبيها، ثمّ إنّ هذا النزوح يعني مقاساة شدائد وأزمات في الأماكن التي ينزحون إليها، من نقص حادٍّ في مقوِّمات الحياة العاديَّة، إضافةً إلى انعدام الأمن والأمان، فالعدوِّ يطاردهم حتّى في مناطق نزوحهم.
لقد تحدَّث تعالى عن هذه المعاناة بتعبير 'الإخراج من الديار' في قوله سبحانه:﴿ٱلَّذِینَ أُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِم بِغَیۡرِ حَقٍّ﴾[الحج:٤٠]، ومعناه كما يقول السعدي: "ألجِئوا إلى الخروج بالأذيَّة والفتنة"، وذلك ظلمًا وعدوانًا لقوله تعالى قبل ذلك: ﴿أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُوا۟ۚ﴾ [الحج:٣٩]، والإخراج من الديار 'بِغَیۡرِ حَقٍّ' هو عدوان وظلم كبيران للإنسان، ومَسٌّ لأبسط حقٍّ من حقوقه؛ "فإنّ للمرء حقًّا في وطنه ومعاشرة قومه، وهذا الحقّ ثابت بالفطرة لأنّ من الفطرة أنّ الناشئ في أرض، والمتولِّد بين قوم هو مساوٍ لجميع أهل ذلك الموطن في حقّ القرار في وطنهم وبين قومهم" (التحرير والتنوير، ابن عاشور)..
ومع مشاهدة كلّ هذه الصور من العسر من المآسي والمحن، لا بُدَّ أن يأتي السؤال: لِمَ يفعل الله كلَّ هذا بعباده؟ ألِيعذِّبَهم ويشقيهم ويعسِّر عليهم الحياة؟
يُتبع
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة