يحكُم الدّراسة اللّغويّة منهجان أساسيّان. الأوّل هو المنهج الـمِعياريّ الّذي يضع القواعد، ويضبط الأصول، ويسدّد المقاييس، ويوجّه نحو صواب القول، ويحول دون الخطأ، وغالبًا ما يذكرون أنّ شعاره "قل ولا تقل". والثّاني هو المنهج الوصفيّ الّذي يشخّص الواقع على حالِه، ويكون أمينًا في تصويره، ولا يتدخّل في تصويب ما اعتَوره شيءٌ من الخلل في مسيرة اللّغة. ولقد نهضت لغتنا بالتّمازُجِ الحكيم بين المنهجين، ولا ثباتَ لهذه الـنّهضة إلّا بالحفاظِ على توازُنِهِما.
من المنهج الوصفيّ أن نرصد ما آلتْ إليه اللّغة العربيّة، حين طالَ عُمرُها، وتفرَّقَتْ أمصارُها، واتّجه كلامها المحكيّ إلى الـتّبسّط، حتّى أفْضى إلى لهجاتٍ متعدّدة تظهر الغربة بينها، وتظهر بعضُ الغربة أحيانًا بين كلّ منها والعربيّة الفصيحة.
لكنّنا نجد أنّ هذه اللّهجات، على امتداد الوطن العربيّ، ترتدّ بشكل أو بآخر إلى ظواهر صوتيّة قديمة تبـنَّتها بعض لغات العرب، ودوّنتها كتبنا في التّراث الأصيل.
وقبل أن نعطي عيّناتٍ من هذا اللّهجات، لا بدّ أن نلفت النّظر إلى أنّ القرآن الكريم هو الّذي وهَبَ لهجات العرب القديمة حيّز القَبول، حين ضمّت سوره إلى جانبِ لغة قريشٍ لغاتٍ لسائر القبائل، فكان من الطّبيعيّ أن لا يجسر أحد من اللّغويّين على تصوُّر أنّ شيئًا من تلك اللّغات الّتي أوردها القرآن غير فصيح.
والـنّماذج السّريعة الّتي سنسردها من شأنها أن تبعد عن الأذهان أنّ اللّهجات العامّيّة متحدّرة من لغات قديمة كانت في بلاد العرب قبل الفتح، فهي نماذج يتّضح فيها احتذاء سمْتِ الأوّلين في الـتّذوّقِ الصّوتيّ، والسّلوكِ اللّغويّ.
• في كلامنا العامّيّ مثلًا يكثر كسر حرف المضارعة، كأن نقول: تِكتُب- تِسْمَع- تِشْرَب... وهذا سمّاه اللّغويّون القدامى بالتَّلْتَلَةِ، وقد اشتُهِرَت بها قبيلةُ بَـهْراء، وهي بطن من قُضاعة.
• وفي كلامنا العامّيّ أيضًا تبديل في مواقع الحروف: عربون ← رعْبون- سَجّادة ← سَدّاجة- عَقْل ← قَعْل- مِلعقة ← مِعْلقة- زوج ← جوز- أبله ← أهبل- إزعاج ← إجعاز. وهذا سمّاه اللّغويّون بالقلب المكانيّ، وعدّوا منه: عاث ← عثا- يئس ← أيِس- آنَ ← أنى- نأى ← ناء....
• ويشيع في لهجاتنا إلغاءُ حرف في كلمة والإتيان ببدلٍ منه في الموضع نفسِه: أين ← وَيْن- شجرة ← سَجرة- هذا ← هادا – إذا ← إزا- ثَعلب ← تَعْلب- قَلْب ← أَلْب- قاسم ← جاسم- دجاجة ← دَياية- ظهر ← ضهر- ضابط ← ظابط- سؤال ← سُعال- صغير ← زغير ... وهذا عبّر عنه اللُّغويّون بالإبدال، وذكروا منه: اطمأنّ ← اطبأنّ- قهر ← كَهَر- تَلَعْثَمَ ← تلَعْذَم- عَلِيّ ← علِجّ ...
• ونرى قلب العين السّاكنة المجاورة للطّاء نونًا: أعطى ← أنْطى، وهذا ما عُرِفَ قديمًا بـ"الاستنْطاء"، وكـــان في ســــــعد بن بكر وهُذيل والأَزْد وقَيسٍ والأنصار.
• ونرى تسهيل الهمزة: بائع ← بايع- بئر ← بير- دافئ ← دافي- فوائد ← فوايد... وهذا الأمر يشبه ما كانت عليه قريش في سالف عهدها، وسُليم وخُزاعة وكِنانة وجُهَينةُ...
• ونرى إلغاء الهمزة بعد الألف: صحراء ← صحرا- سماء ← سماء- غلاء ← غَلا- شعراء ← شعراء... وهذا معروف بقصر الممدود، وهو من الضّرورات الشّائعة في الشّعر العربيّ، قديمه وجديده.
• وفي كلامنا المحكيّ أحيانًا إلغاء الحرف الأخير، معَ مدّ ما قبلَه: أنتم ← إنتو- فيكُم ← فيكُو- لكِن ← لكَا... وهذا عدّه قدامى اللّغويّين من القطعة، وكانت في طيّئ، إذ تقول مثلًا في "أبا الحكم": "أبا الحكا"...
• ونرى بعض اللّهجات تقف على الأسماء المنتهية بهمزة بعد واو أو ياء، بإلغاء الهمزة وتضعيف ما قبلها: ضوء ← ضوّ- وُضُوء ← وُضُوّ- شيء ← شَيّ- فيء ← فَيّ.... وهذا مبدأ تسوّغه اللّغة الفصيحة.
• وفي بعض كلامنا العامّيّ إتباع الحرف الأوّل للثّاني المكسور: عَمِل ← عِمِل- رَكِب ← رِكِب- سَلِمَ ← سِلِم- عَشِقَ ← عِشِق، وهذا كان في لغة تميم، ومنه قولهم في "ضَـحِكَ": "ضِـحِكَ".
• ونجد مَطل الحركة عند الوقف، أي مدّ الفتحة حتّى يتولّد منها ألف: أكَل ← أكال، ومدّ الكسرة حتّى يتولّد منها ياء: ملِك ← مليك- بِعْ ← بِيعْ، ومدّ الضّمّة حتّى يتولّد منها واو: يكتُب ← يكتُوب- قُمْ ← قُوْم. وقد ذكر ابن جنّي (392ه) في "الخصائص" شواهد كثيرة على هذا الأسلوب في الشّعر القديم.
• ولا ننسى الإمالة، وهِيَ أن تُقرِّب الحرف مـمّا يُشاكله من كسرة أو ياء، وتصبح الفتحة بمنزلة الـ(é) الفرنسيّة، كأن نقول كتاب ← كتيب- رِجال ← رِجِيل... وكانت الإمالة شائعة في قبائل نجد، ومنها تميم وقيس وأسد وطيّئ وبكر بن وائل وعبد القيس....
• ويرد في كلامنا: حملْت الحجارة شَيْلة بَيْلة، والشّيلة من الفعل شال أي ارتفع، أمّا البيلة فلا معنى لها. ويرد أيضًا: يعملُ منَ الفَجْرِ إلى النَجْر، ولا مَعنى للـنّجر هنا، إلّا إذا شئنا التّكلُّف. وهذا الأسلوب قال عنه القُدماء إنّه الإتباع، وهو أن يلي الكلمةَ كلمةٌ تضارعها في الوزن، ولو كانت بلا معنى، وكأنّه يُراد بها التّوكيد: حَسَن بَسَن، وعَطشان نَطشان، وجائع نائع، وحارّ يارّ... على نحو ما ساقه السّيوطيّ (911ه) في "المزهر" عن الكسائيّ (189ه).
• ومن ذلك نقل الثّلاثيّ إلى رباعيّ بوزن "فَعْلَل"، للإيحاء بأنّ المعنى يزيد مع زيادة اللّفظ: دعس ← دَعْوَسَ- خبث ← خَبْثَنَ - رَجَع ← رَوْجَع- شخر ← شَنْخَر- فرِح ← فَرْفَحَ... واستخدام الوزن الرّباعيّ لهذا الغرض نصّ عليه الأقدمون، وقالوا إنّه الإلحاق، وعدّوا منه: فَوعَل وفَعْوَل وفَيْعَل وفَعْيَل وفَعْنَل، وهي قريبة في الصّياغة من أوزان اللّهجات الحاليّة.
• ونقول في العامّيّة لدى صياغة اسم المفعول من الأجوف الثّلاثيّ "باع": "مبْيُوع"، والفُصحى تَعتَمِد "مَبِيع"، وكذلك الأمر في الفرق بين "مَصْوُوغ" و"مَصُوْغ". والواقع أنّنا بعامّيّتنا هذه نوافقُ لغةَ تميم، وإن خالفْنا لغة قريشٍ.
• ويكثر أيضًا نقص حروف الكلم في الإدراج والوصل أو تقصير الحركة الطّويلة: إلى أين ← لَوَين- بِوُدّي ← بَدّي- أيّ شيء ← إيش... ولهذه الظّاهرة أصول في الشِّحْر وعُمان، ضمن ما يسمّى باللَّخلخانيّة، ومنها قولهم في "ما شاء الله": "مشا الله"...
• ونقول في العامّيّة: راحوا الأولاد، ونقول: أكلوا الضّيوف، في حين أنّ اللّغة الفصيحة تقتضي أن نقول: راح الأولاد، وأكل الضّيوف. لكنّ في لغات العرب القديمة ما يسمّى بـ"أكلوني البراغيث"، ضمن قبائل طَيِّئ، وأَزْدِ شَنُوءة، وبَلْحَارث، وهذا يسمح بالجمع بين الضّمير المعبّر عن الـتّثنية أو الجمع، والفاعل الظّاهر، وقد ورد في القرآن الكريم مثالان على ذلك، فثمّة الآية: {ثُمَّ عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ مِنْهُمْ} وثمّة الآيةُ الأخرى:{وَأَسَرُّوا الـنَّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُوا}.
إنّ دراسة اللّهجاتِ العربيّة دراسة ممتعة وهادفة إذا أردنا منها رفد الفصحى الحاليّة بهوامِش تحرُّك، لها أصولها القديمة، وإذا أردنا منها كَسرَ الجليدِ بينَ الطَّرَفينِ. أمّا الذّهابُ إلى إحلال اللّهجاتِ العامّيّة محلّ العربيّة الفصحى، فإنّه مشروعٌ خطير، لا ينبغي السّكوتُ عنه، ما دامَ فينا حسْن الانتماء، وعميقُ الوفاء، وجميلُ الرَّجاء.
كشف الثقوب.. في أدعياء علم الغيوب!
ضَوْءٌ لَمَعَ وَسَطَ المَدِينَة
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء العاشر
هكذا هو!
ماذا يعني انتصار ثورة أهل الشام؟!