د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء السادس
كما أنّ الله تعالى جهَّز هذا الكون على نحو يصلح لحياة الإنسان ووظيفته، فقد جهَّز كذلك هذا الإنسان ببنية وقوام، باستعدادات وطاقات، وبنى فطرته على ذات القانون الذي يحكم الكون. ولذا نسعى في هذا المقال إلى إبراز مناسبة هذا القوام لوظيفة الإنسان الاستخلافيّة، وكيف أنّه جُعل على نحو يساعده على أدائها، وذلك من ناحيتين:
-أ- من ناحية مظاهر حسن التقويم في البنية الماديّة للإنسان التي لا تخطئها عين، وذلك على مستويين:
* على مستوى البناء الخارجي لجسمه: فقد أجمله الأصفهاني في سياق حديثه عن فضل الإنسان، بقوله: "وأما فضله في جسمه فاليد العاملة، واللسان الناطق، وانتصاب القامة الدالّة على استيلائه على كلّ ما أوجد في هذا العالم، وقد نبّه الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمٍ﴾ [التين:٤]" (الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص ٧٨).
إنّ أبرز ما يظهر من حسن قوام الإنسان قامته المنتصبة إلى الأعلى، وتركّز وسائل الإدراك في طرفها الفوقيّ؛ وهو الوضع الأنسبُ المهيِّءُ "للإشراف على الظرف المكاني المحيط بالإنسان على أبعاد كبيرة؛ بحيث تكون له القيومية على تلك الأبعاد في مختلف الجهات، سواء في الاحتراس من الغوائل، أو في رعاية المنافع، أو في الرصد والتطلّع لإنشاء المصالح ومراقبتها واستثمارها، فأين الإنسان في هذا التقويم الرفيع من بهيمة قد خلقت مكبّة على وجهها، فلا يكون إشرافها إلّا على المساحة القليلة من المكان والسمت الواحد من الجهات" (قيمة الإنسان، النجار، ص٢٠).
وفيما يتعلّق بمجمل أعضاء الإنسان وجوارحه التي كرّم بها، فهي تشكّل "معدّات عجيبة من الأعضاء والمفاصل تمكّنه من ردّ العوادي على جسمه، وتوجيه الموجودات من حوله لما فيه منفعته. ولو جعلنا نفصّل هذا المعنى في كلّ عضو من أعضاء الإنسان لوجدنا أصغرها شأنًا في الظاهر يؤدّي دورًا عظيمًا في مجال التعامل مع البيئة، وهو ما كان ملحظًا لبعض المحقّقين في هذا الأمر فقال: إنّ إبهام الإنسان له دور عظيم في قيام الحضارات الإنسانيّة، إشارة منه إلى ما لإبهام اليد من عظيم الدور في المسك والتصويب والدقّة، وليست الحضارات في جانبها العمراني إلّا ثمرة للعمل اليدوي" (قيمة الإنسان، ص٢٠-٢١).
وكذلك حواسه إجمالًا، فإنّها قد صُمِّمت على نحو ما تتطلَّبه تلك الوظيفة؛ فهذه عينه قد جُعلت كما يقول قطب: "مقيسة على الذبذبات الضوئيّة التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يراها. وأذنه تلك مقيسة على الذبذبات الصوتيّة التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يسمعها. وكلّ حاسّة فيه أو جارحة مصمّمة وفق الوسط المهيّأ لحياته، ومجهّزة كذلك بالقدرة على التكيّف المحدود عند تغيّر بعض الظروف" (في ظلال القرآن، ص٣٠٩٣).
بتعبير آخر؛ فلقد سخّر الله تعالى للإنسان نفسه بما فيها من ملكات وقدرات، وجعل له تلك الحواس التي تهديه في عالم المحسوسات؛ إذ جعل له مثلًا عينين على ذلك القدر من الدقّة والإبداع في الصنع في تركيبهما وقدرتهما على الإبصار ليرى وينظر بهما في صفحات الكون المحيط به، ثم ليكتشف سُنَنَه وقوانينه المنظم بها بطريقةٍ تساعده على تسخيره لتحقيق عمارة الأرض، وتلبية حاجيّاته الماديّة، إلى جانب تلبية غذائه الروحيّ من رؤية دلائل العظمة والقدرة الإلهيتين وحقائق الإيمان.
وجعل له لسانًا للبيان والتواصل والتعبير، حتّى يمكن نقل العلوم والمعارف والثقافات، والتعارف بين الناس والتعاون والتعايش والاستقرار وعمران الأرض.
وقد ذكر الله تعالى نعمة اللسان هذه وبيّن أهميتها بعبارة "البيان" ارتباطًا بخلق الإنسان:﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلۡبَیَانَ﴾[الرحمن:١-٤]، ثم باستعراض آلاء وآيات الله في الكون:﴿ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَان* وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ یَسۡجُدَانِ* وَٱلسَّمَاۤءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِیزَانَ* أَلَّا تَطۡغَوۡا۟ فِی ٱلۡمِیزَانِ* وَأَقِیمُوا۟ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُوا۟ ٱلۡمِیزَانَ* وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ* فِیهَا فَـٰكِهَةٌ * وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ* وَٱلۡحَبُّ ذُو ٱلۡعَصۡفِ وَٱلرَّیۡحَانُ﴾ [الرحمن:٥-١٢]، وهي الآيات التي تنطق بسُنَن وقوانين تحكم سير الكون وتنظِّمه تيسيرًا ليسخّره الإنسان في أداء وظيفته وغاية خلقه، وذلك عبر استخدام ما وُهِبَ من قدرات العقل والإدراك، وملكات العلم والمعرفة، التي تشير إليها عبارة "البيان" المرتبطة بجارحة اللسان.
لا شكّ إذًا أنّ كلّ ما سبق هو من تجهيز الإنسان البدني الخارجي بوسائل وأدوات العمل لتحقيق العمران والخلافة في الأرض.
* على مستوى البناء الداخلي لجسم الإنسان: فإنّ العلم كفانا اكتشاف ورؤية عجيب الصنع فيه، ودقيق التفاعلات في أنسجة جسمه، "على صورة أعجب من البناء الخارجي في التهيئة لتفاعل الجسم مع المحيط المادّي تفاعـلًا إيجابيًّا بما يحدث في تلك الأنسجة من أنواع الاستجابات دفاعًا عن الجسم ضدّ كلّ غزو مادّي، وتعزيزًا له وتقويةً لكفاءته في الأداء لما تستوجبه مصلحته" (قيمة الانسان، ص٢١).
- ب- من ناحية مظاهر من حسن البنية المعنويّة: التي تعدّ الأرفع شأنًا والأدقّ صنعًا، والأعظم دورًا في تأدية الغرض الوجودي للإنسان؛ فالنفس الإنسانيّة تتميّز عن سائر خلق الله بما تتمتّع به من قوى وملكات مدهشة عجيبة، على رأسها تلك "القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء، وهي بذلك أوّل مفتاح لتسخير كثير من مظاهر الكون للإنسان ولجعلها تحت سلطانه" (كبرى اليقينيات الكونية، البوطي، ص٢٤٧).
الحديث هنا عن تلك "البنية التي تتقوَّم بها ماهيّة الإنسان، وهي التي تدبّر الاستخلاف، وتسوق الجسم لتنفيذ تدبيرها" (النجار، ص٢١-٢٢).
على رأس هذه البنية تلك الملكة العظيمة 'العقل' التي ميّزت الإنسان/الخليفة في الأرض عن سائر الخلق، كما أنّه كما يبيّن لنا النجّار "مناط التكليف لإنجاز وظيفة الخلافة أصلًا، ولذلك فقد بني على خصال عجيبة لأداء تلك الوظيفة على أكمل الوجوه، من أظهرها ما اختصّ به من قدرة على التمييز بين الحقّ النافع وبين الباطل الضارّ، فكان بذلك العاصم للإنسان من المآل إلى ما فيه الهلكة، والدافع له إلى ما فيه المصلحة المحقّقة للغرض من الوجود. ومن مظاهر رفعة العقل الإنساني ما خصّ به من قدرة على الاستيعاب لما هو غائب عن الإنسان من الحقائق، سواء ما تعلّق منها بعالم الغيب أو ما تعلّق بعالم الشهادة، وهو ما تتحقّق به السيطرة على البيئة الكونيّة مجال التحرّك الإنسانيّ، إذ تصبح تلك البيئة حاضرة صورتها في العقل فيما خفي منها من قوانين وأسرار وطبائع، فيكيّف الإنسان حياته في منع ما يضرّه واستثمار ما ينفعه وفق تلك الصورة المعلومة لديه، الحاضرة في ذهنه، وهي صورة قابلة للنمو المطرد، وباطّرادها في التوسع والنموّ تطّرد كفاءة الإنسان في إنجاز الخلافة، وهي الغرض من الوجود. وممّا خصّ به العقل قوّة التذكّر والاختزان للمعارف والحوادث، وهي منّة إلهيّة عظيمة الشأن، إذ بها تتمّ وحدة الذات البشريّة واستمراريّتها بما يكون من حضور لتجربة الماضي في الوعي الراهن فيتحقّق للإنسان السداد في التخطيط للمستقبل بهدي من سيرة الماضي، ولو فقدت هذه القوّة لما أمكن له أن يتقدّم خطوة في عمارة الأرض، ولكان ينقض غزله أنكاثًا في كلّ حركة جديدة. وإلى جانب العقل خصّ الإنسان في بنيته المعنويّة بجملة من العواطف والغرائز ذات البعد الفردي والاجتماعي من شأنها أن تحقّق للإنسان التواصل النوعي والتواصل الاجتماعي، وتضمن التآزر بين الأفراد والتعاون في تأدية الأعمال، وفي نقل مكتسبات الحكمة من جيل إلى جيل، ومن جماعة إلى جماعة، وذلك ما تحقّقه فطرة الحفاظ على النوع ماديًّا وثقافيًّا، وفطرة الاجتماع، وهو ما خصّ به الإنسان دون غيره ممّا يتضمّنه قوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبًا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ﴾ [الحجرات:١٣]، فقد جعل الله الناس جماعات وركز فيهم فطرة الاستمراريّة التي انحدروا بها من آدم وحواء، وفطرة التعاون المعبّر عنه بالتعارف" (قيمة الانسان، ص٢٢-٢٤).
فالله تعالى ينادي الناس جميعًا يذكّرهم بسُنَّة الاختلاف "شُعُوبًا وَقَبَاۤىِٕلَ" التي يرونها رأي العين، ويطلعهم على غاية ذلك، ولا شكّ أنّها ليست "التناحر والخصام. إنّما هي التعارف والوئام. فأمّا اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوّع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات" (في ظلال القرآن، ٣٣٤٨).
وهكذا، أراد الخالق جعل الإنسان بهذا القوام الخاصّ به الذي لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات، ليفضي إلى تحقيق وظيفته في هذا الكون، الدقيق في نظامه والبديع في صنعته، ما يعني أنّه عزّ وجلّ خلق الإنسان على كيفيةٍ ملائمةٍ، وهيئةٍ متناسبةٍ "مع ما خلق له نوعه من الإعداد لنظامه وحضارته" (التحرير والتنوير،٣٠/٤٢٤). وهو المعنى الذي يتعزّز بقوله تعالى:﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارًا وَٱلسَّمَاۤءَ بِنَاۤءً وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ﴾[غافر:٦٤].
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
رسالة إلى طلّابنا الأعزّاء
إلصاق الإرهاب بالإسلام.. تحقّقٌ وجواب!
اضطراب هوس الاكتناز القهري
ابتسامة رضا
وقفات قافية.. مع السيرة النبويّة