ودارت الأيام
كثرت الأعمال وازدحمت، ومرت الأوقات مرورًا سريعًا لاهثًا، وأنا أتمزَّق بين كثرة الواجبات، وقلة الأوقات، ولا أجد حلاًّ لمعادلتي الصعبة هذه، سوى الاستعانة بـ(خادمة)، رغم كراهيتي لإيحاءات هذه الكلمة البغيضة جدًّا إلى نفسي.
شاهدت (أنغام) وقوف حافلة مكتب الخدمات أمام فيلتها، فعلمتْ أن المكتب قد أرسل لها خادمة؛ لتساعدها في هذا اليوم العصيب، رأت أنغام سيدةً أنيقة تنزل من باب الحافلة، تغطي عينيها بنظارات شمسية سوداء، وترتدي ملابس جميلة شبه محتشمة، وبيدها حقيبة فاخرة، توقفت السيدة قليلاً، ودققت في عنوان الفيلا، ثم أشارت للسائق أن يكملَ طريقه، وقرعت جرس الباب.
اعتلت الحيرة وجهَ أنغام؛ إذ يبدو أن السيدة المهذبة التي أمامها هي مديرة المكتب، حضرت لأمرٍ ما، تأملت أنغام نعومة اليدين، ونضارة الوجه، والكلمات الرقيقة المهذبة، والصوت الهادئ المتزن، لا، يستحيل أن تكون هذه المرأة هي الشغالة المطلوبة ليوم عمل شاقٍّ كهذا.
أما الاسم (رونق)، فسوف يستغيث لو أضيف إلى كلمة "خادمة"، جلست "رونق" صامتة شبه متوتِّرة قابلة أنغام، وبعد مرور لحظات صمْت قليلة، سألت:
• من فضلك أخبريني من أين أبدأ العمل؟
• من المطبخ لو سمحت.
ظنت أنغام أن تطاير الوقت قد توقف، وأن كل واحدة منهما ستسير صوب عملها غير آبهة بغيره، لكن هذه الخادمة "اللغز" شغلتْ فكر أنغام، وشحذت ذاكرتها.
• رونق اسم نادر جدًّا، لم يمر عليَّ سوى مرة أو مرتين طوال حياتي، ثم توقفت عن بوحها لنفسها، فقالت بصوت مرتفع ما لبثت أن خنقته عنوة:
• نظرات العينين، ذلك الصوت الرخيم، تقاسيم الوجه، حركة اليدين - تذكِّرني، أجل تذكرني بامرأة غرست كل معاني الحقد والكراهية والقسوة؛ بل وكل المعاني السيئة البشعة في نفسي، امرأة لا أحسن ذكر اسمها، وأذكر اسم ابنتها رونق فقط، إني أكاد أسمع صوتًا أتى من الماضي: "أنغام أيتها الصبية العابثة، اجلسي هنا أمامي، وابدئي بتدريس ابنتي رونق، مفهوم؟"، ثم تلتفت تلك السيدة نحو الصغيرة رونق، وتأخذ بمخاطبتها قائلة: إلى متى ستبقى ابنةُ سعدة هي الأولى على مدرستنا قاطبة، وتبقى ابنة المديرة متربِّعة على الكرسي الأخير؟
• فتجلس الصغيرة اليتيمة أنغام جلساتٍ إجباريةً طويلة، وهي تدرس الصغيرة المدللة رونق دون جدوى، وتتسلل صورة قاتمة جدًّا لوالدة رونق يوم أن اتهمت (الخالة سعدة) والدة أنغام، بسرقة أسئلة الامتحانات من غرفة الإدارة؛ من أجل رفع مستوى ابنتها، كم أذلَّتها، وكم أهانتها! أي الكلمات الجارحة صبتْ فوق رأسها غير آبهة بدفاع المعلمات عن الخالة (سعدة) وابنتها؟! ولم تفكِّر بالمتهم الحقيقي لتلك الجريمة؛ إذ ربما ارتد بعض وصفها عليها، فكانتْ تقول:
• صدق من قال: (حاميها حراميها)، وأمي كانت تقول: صَدَقَ أيضًا.
وتشرق صورة أمي الصابرة المحتسبة أمام ناظري، صورة طالما آلمتني وعلمتني وشحذت همتي؛ إذ كان رد أمي الحبيبة وابلاً من الدموع وعبارة:
• حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم قررت المديرة أن تنقلني إلى مدرسة أخرى، فلاقت أمي الأمرَّين مِن معاملات النقل، وذقت أنا العلقم من جراء نقلي هذا، فقد كنتُ أذهب وأعود وحدي في الحر والقر، دون مؤانسة أمي أو مؤازرتها، ولم يكنْ معي أحد من بنات الجيران، وما كسبته هو إصراري الأكيد على التفوُّق الدائم، وكانت سعادة المديرة تتابع أخباري، ولم يهدأ لها بال إلا عندما قرأت اسمي على صفحات الجرائد الأولى يوم إعلان نتائج الثانوية العامة، وربما لم يهدأ بالها أيضًا.
نسيت أنغام نفسها وهي تقلِّب صفحات ذكرياتها، وعندما أبصرت واقعها توجهت إلى بارئها مناجية: "الحمد لك يا رب، لك الفضل والشكر والمنة؛ فقد أنعمت عليَّ بنعم كثيرة لا تُحصى، ورزقتني أمًّا عظيمة جاهدتْ من أجلي، ولك الحمد على توفيقك العظيم لي؛ فهأنذا أخطو الخطوة الأخيرة في رسالة الدكتوراه، أسألك أن توفقني وتساعدني في خدمة ديني.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، على نعمة الزوج الصالح الموفق في دنياه".
وقبل أن تكمل ابتهالاتها سمعتْ صوت والدتها الواهن يدْعوها، فهرولتْ نحوها، وإذ بها تسألها عن سبب كثرة الأصوات والضجيج الذي أقلق نومها، فأجابتها:
لقد استدعيت اليوم خادمة لمساعدتي.
آه لو كان بي قوة، لم أضطرك لهذا يا ابنتي، إن صوت مكنسة الكهرباء ممزوجًا بصوت صنبور الماء، مختلطًا بصوت المجفف الكهربائي - يشعرني بأن هذه الخادمة لا تفقه شيئًا في عمل البيت، قومي يا ابنتي وتابعي أعمالها، أو أرسليها لي؛ كي أسألها.
ومثلت رونق أمام الخالة سعدة، نظرت قليلاً، حدقت بها، ثم أشاحت بوجهها عنها، لقد عرفتها وتذكرتْها، هذه الخالة التي ظلمتها أمي، إنها هي، حاولت الهرب من ذاتها، والتَّفَلُّت من ذكرياتها، فسألتها برفق:
أي خدمة يا خالة، وخُنِقَتْ كلمة (سعدة).
"إنه ذلك الصوت، وتلك الملامح، إنما الذي قضي عليه هو خطاب الاستعلاء والاستكبار، أيعقل أن تكون هي ابنة المديرة؟!"، اجتاحت الخالة سعدة موجةٌ عارمة من الحزن، وطلبت من رونق ترك كل شيء في مكانه، والجلوس بجوارها؛ لكي تستمع إليها.
نعم يا خالة أنا ابنة السيدة نفيسة، وأطرقت كأنها تحدث نفسها: تفرحني الذكريات ويجرحني الواقع، وأنت يا خالة تؤلمك الذكريات ويفرحك الواقع، أجل أنا رونق المدللة المرفهة، التي حرمتْ تعلُّم المهارات في صباها، أجل أنا رونق الضحيَّة التي دفعتْ سعادتها ثمنًا لفرعنة أمها - رحمها الله - أنا رونق التي لم تحملْ سلاحًا ضد أنياب الحياة سوى مؤهل واحد: إنها ابنة المديرة، أجل أنا رونق التي كانتْ تحب قديمًا سماع أغنية (دارت الأيام)، والآن تعيش دورة الأيام.
ابنة المديرة التي لا تعرف سوى الاستهلاك والتبْذير، ابنة المديرة التي لم تستطع في السابق أن تحصلَ على الشهادة الثانوية، ولم تستطع في اللاحق في أن تدبرَ عش الزوجية، فرُميت خارجه، ابنة المديرة ربما لا تستطيع أن تحافظَ على وظيفتها المرموقة الآن (خادمة)؛ لأنها لا تملك المهارات التي تؤهِّلها لذلك.
ثم قامت متثاقلة، واتَّجهت نحو أنغام معتذرة عن عجزها عن إتمام العمل، فناولتْها ضعف حقوقها، وودَّعتها كما ودعت أيامها الماضية.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن