بين الرعاية والمرعي
لم يفتح أبو نداء عينيه جيدًا بعدُ، حين تراءتْ له الساعة العاشرة صباحًا، فنهض من فراشه مذعورًا وهو يقول: لا، لا يمكن، هل تأخرتُ كل هذا الوقت عن موعدي الذي كنت أنتظره منذ أمد؟! ثم التفت صوبَ زوجته التي بدتْ غارقةً في نومها، وقال: هيا يا زهية، الساعة الآن العاشرة صباحًا.
فأجابت وهي تتمطى: أرجوكَ اتركني أكمل نومي؛ فقد أرهقني سهر البارحة، ثم ضربت الجرس، فأجابتها (إلفي) الخادمة، فأمرتها قائلة:
أحضري إفطارًا سريعًا لسيدك يريد أن يخرج.
♦ حاضر أمي حاضر.
أعادت زهية رأسها إلى وسادتها؛ لكن النوم لم يعد إلى عينيها؛ فقد تراءتْ أمام ناظريها سهرة الليلة التي مضت، كانت العروس فاتنة الجمال، وكان العرس منظمًا جدًّا، أما نداء صغيرتي التي لم تجاوز سنتها الرابعة بعد، فقد بدتْ رائعة بديعة، فستانها الأبيض الصغير نال إعجاب الحضور جميعًا، ومجوهراتها كانت ثمينة ونادرة باعتراف سيدات المجتمع، أما حركاتها وكلماتها ورقَّتها، فقد جعلتني أؤمن بأن لدى ابنتي مواهب عظيمة، ستكون صورها أجمل صور الحفل بالتأكيد، كم أنا متلهفة لرؤية صور الحفل، ثم شعرت بالضيق عندما تذكرت حوارها مع ابنة عمها صفاء التي بدتْ حائرة بين جمهرة صغارها، إنها تذكر سؤال صفاء لها: وهل لهذه الصغيرة الجميلة إخوة وأخوات؟
فردت زهية: لا أحب أن أصبح.
♦ من الناس من يرفع راية الإساءة للأطفال، دون دراية منهم أو قصد أحيانًا، يهيَّأ لي أن الطفولة في بلادي تئن.
♦ وأنا أعتقد أيضًا أن الطفولة تحتقر في بلادي، فأكملت صفاء: ممتاز، إذًا نحن لنا نفس وجهة نظر، فأنت تعلمين حتمًا أنه يجب أن يحصل الصغير على جميع حقوقه: يأكل ما يشتهي، يرتدي ما يحلو له، يشتري الألعاب التي يريدها، وقبل ذلك وبعده يحتاج إلى غرفة خاصة، وخادمة، ومربية إن أمكن.
♦ نعم، للصغير حقوق واحتياجات يجب أن تلبَّى، ولكن ميدان اهتمامي غير ميدان اهتمامك، ونحن الآن في مناسبة لا تسمح لنا بالنزول إلى الميدان.
فقالت زهية: أحب أن أسمع وجهة نظرك.
♦ حسنًا، أنا أرى أن الطفل بحاجة إلى حضن أمه الدافئ أضعافَ حاجته إلى خادمة ومربية، وأرى إنه بحاجة إلى غرس المبادئ والقيم والأخلاق الفاضلة، أكثرَ من حاجته إلى الأزياء العالمية، وهو بحاجة إلى إخوة وأخوات يلعب معهم، وينافسهم ويؤانسونه أضعافَ أضعاف حاجته إلى ألعاب صمَّاء بكماء.
♦ أفهم من ذلك أنك ترين أن حاجات الطفولة لا تتحقق إلا وسط أسرة كبيرة، وأم منهكة، تعيش عيشة خادمة.
♦ لا يا عزيزتي، الأم التي تربِّي صغارَها وترعاهم، تلاعبهم وتطعمهم، وتعلِّمهم وتشاركهم أفراحهم، وتفهمهم حق الفهم - ليست خادمةً لأحدٍ قدر خدمتها لمبادئها، وأنعِمْ بها من خدمة!
♦ وأين حقوق هذه الأم؟
فأجابت صفاء بهدوء وثقة: أستسمحك عذرًا؛ فأنا لا أرى مناقشة هذا الموضوع في مثل هذا الموقف، وبيننا الأيام يا عزيزتي، وكما قال الشاعر:
فَذَا الكَوْنُ جَامِعَةُ الجَامِعَاتِ وَذَا الدَّهْرُ أُسْتَاذُهَا المُعْتَبَرْ |
وكررت زهية العبارة الأخيرة وهي تنهض من فراشها بتراخٍ، وتصفف شعرها بيدها، وقالت لنفسها: هذا أجمل ما قالته صفاء، ثم نادت: إلفي الخادمة.
♦ يبدو أن نداء ما زالتْ متعبة من حفل الأمس، اذهبي إليها وأيقظيها برفق.
توسعت حدقتا إلفي، وقالت: أنا أمي، أنا...
فقاطعتها: ماذا؟ اذهبي بسرعة ونفذي ما قلته لك.
♦ لكن أمي، نداء سرير ما في.
♦ وهل تركتِها تذهب إلى الحديقة بمفردها أيتها الحمقاء؟!
♦ لا، لا أمي، نداء هذا ليل كله سرير ما في (تقصد أن نداء ليست في السرير).
♦ نعم، نداء لم تنم الليلة عندك.
♦ آه، أنا ماما قلت نداء نام معها سوا سوا.
♦ نداء، نداء، لم تنم عندي، ولم أرها منذ الحفل.
♦ شوي شوي ماما، ما تزعل كثير، أنا ذكرت ذكرت.
وأكملت حديثها وهي تشير بيدها: إحنا روح من الحفل كله واحد معه شنطة، ونسي نداء نوم في السيارة.
هبطت أم نداء السلم دفعة واحدة، ودخلت كراج السيارة الذي بدا مشرع الأبواب فارغًا.
نظرت إلفي إلى الساعة وقالت: نصف ساعة بابا يخرج.
أجل، لقد هرول والد نداء صوب الكراج قبل نصف ساعة تقريبًا، وكاد يقفز قفزًا ليفتح باب سيارته، وأذهلته المفاجأة.
صاحبة الثوب الأبيض الجميل الصغير، جالسة مكان والدتها وشعرها منفوش منتوش، وعلى وجهها علامات رعب قاتلة، وقد استرخت أطرافها وبردت.
فاستمر لاهثًا مهرولاً؛ لكن إلى المستشفى.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن