وقفـات.. قبل الممات والفوات!
لعل الساعة التي تفرق بين خروج الروح وفراق الدنيا والانتقال إلى عالم آخر، مهما قيل في أحواله، تبقى عالمًا مجهولًا، جوانبه غامضة وملامحه غير واضحة. أقول إن هذه الساعة لا يحبها إلّا المؤمن، ولا يُسرُّ بها إلّا من أحب لقاء الله، ولا يكرهها إلّا من كره لقاء الله، وهو ما جاء ذكره في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قالت له زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: 'كلنا يكره الموت يا رسول الله.' قال: 'ليس الأمر كذلك يا عائشة، ولكن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.'
فلم ينكر رسول الله على أم المؤمنين قولها بكراهية الموت، لأن ذلك من طبيعة النفس البشرية التي جبلت على حب البقاء وحب الخلود. وقد كتبت في ذلك الكتب، التي في معظمها عند غير المسلمين، كأسطورة جلجامش في البحث عن الخلود. ونحن أولى بالبحث عن هذا الخلود، ولكن ليس على منهج من هم اشتروا الدنيا بالآخرة، وغرتهم الحياة الدنيا بنعيمها الزائل، فمضوا يبحثون عما يتشبثون به بأظفارهم بحثًا عن البقاء. ولكن لأهل الإيمان خلود آخر يحرثون له في الدنيا، ويحصدون ثماره في لقاء الله الرحمن الرحيم، ونيل ثوابه في الجنان.
نحن بصدد الوقوف في مقالنا هنا على وقفات الانتقال إلى العالم الآخر، الذي سوف يلقى كل العباد برهم وفاجرهم، إنسهم وجنهم، جزاء ما قدمته أيديهم في دنياهم: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. وهذه الوقفات قبل الوفاة والفوات يمكن لنا أن نجملها في أربع:
الوقفة الأولى: التفكُّر والاعتبار
حيث إن العبد يقضي سني حياته بين ضعف في طفولته، تعقبها قوة في فتوته ورجولته، تليها عودة إلى الضعف الأخير والشيب الغزير. وذلك ما ذكرته الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبًا﴾. فهذه المراحل الثلاث تستدعي من الكيس الفطن التفكر والاعتبار في نفسه أولاً، حيث إنه لو توقف مليًا وأمعن النظر لوجد مراحل حياته تمر أمام ناظريه كلمح البصر أو هو أقرب من السرعة كالوميض، ويرى نفسه قد غزاه الشيب قبل أن تشبع نفسه من عمر الشباب، أو ما قبله، وهو بعد من العمر وليد.
ويحضرني في هذا المقام ما قالته الخنساء أسفًا وحسرة على صباها وقد غزت الدموع عينيها: 'بكيت على شبابي ملء دموعي، فلم يغنِ البكاء ولا النحيب. ألا ليت الشباب يعود يومًا فأخبره بما فعل المشيب.'
هذه عيِّنة ممّا يمكن أن يتحسَّر عليه العبد قبل الفوات بحلول الموت، قصدت بذلك مضي العمر بلا استئذان ولا إشعار لصاحبه، ولا حتى مجرد سلام.
هذا إذا أدرك العبد من عمره ما يستدعي فيه التحسر على شبابه وبلوغ الأشد من سني حياته، فكيف إذا ما خطفه الموت وأدركه الأجل وهو بعد في عمر الورود؟ إن ذلك كله يدعو إلى أن يحزم العبد أمره ويشد أزره، ويستدرك كل يوم ما يمكن أن يسبقه. ولا يجِد مفرًّا من ملاقاته، ولو فر منه، لقوله تعالى: ﴿قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم﴾.
الوقفة الثانية: تحصيل ما لا يمكن تحصيله بعد خروج الروح
حيث كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه: 'ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة. ولكل منهما بنون. فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. فاليوم عمل بلا حساب، وغداً حساب بلا عمل.' وأفضل ما يمكن قوله هنا قول الله تعالى: ﴿وتزوَّدوا فإنَّ خير الزاد التقوى﴾.
وغريب أن يجد الناس أنفسهم في رحلة العمر القصير إلى عالم البرزخ في أول مصير، لا يعرف أمده إلا العليم الخبير، ثم يتبعه الحساب إلى آخر مصير: إما إلى الجنة ونعيمها، وإما إلى الحطمة والسعير. وذلك يقضى فيه بين العباد في يوم كألف سنة مما تعدون، جاء في الكتاب المنير.
الوقفة الثالثة: ندم النفس البشرية
نجِد في بضع آيات من سورة الزمر خلاصتَها، حيث إن الله سبحانه يضع حديث كل نفس خلقها بعد أن تستوفي رزقها وأجلها، وتلاقي وجه ربها فيقول سبحانه محذِّراً: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر]
هذه الآيات قد استوفت ما ينبغي استيفاؤه من ندم النفس البشرية وتحسرها على ما قد فات منها من فرص الحياة التي كانت بين يديها، ثم ها هي تلاقي ربها وهي خالية الوفاض صفر اليدين بعد أن أضاعت ما كان ينبغي لها أن تعمله، وكانت قادرة عليه، ثم هي الآن لا يمكنها أن تعوِّضه.
الوقفة الرابعة والأخيرة: حقيقة الموت
فهي أن يدرك كل واحد منا حقيقة قال عنها سيدنا علي: 'ما رأيت حقيقة أقرب إلى الكذب عند الناس من حقيقة الموت.' أجل، إنها حقيقة لا يصدقها إلا من رآها، وإن كان مؤمنًا بها، وإن كان يتبع جنازة أخيه أو عمه أو أبيه، فهو يظن أنه عن هذا اليوم لا يمر عليه ذات المصير. ولكنّ الله جعل كشف الغطاء عن العباد بدرجة من البرهان حديد لا يكاد الظن يدفع حقيقته، ولو كان صاحبه عمراً أو عليًّا أو خالد بن الوليد.
إن المطلوب منا أن نقف وقفة تأمُّل وتفكُّر واعتبار انطلاقًا من الحديث الشريف: 'كفى بالموت واعظًا.' ومن لا يصدق فليصدق رغمًا عنه عندما يفقد حس أبيه وأخيه وأمه وبنيه، وكل من يأوي إليهم، ومن كان منهم يأويه.
جعلنا الله من المعتبرين، ومِمَّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"




وقفـات.. قبل الممات والفوات!
فجرُ النصر في سورية… يومٌ طوى صفحةَ الطغيان إلى غير رجعة
الذكاء الاصطناعي والإفتاء عند الشباب المسلم المعاصر
الانتماء الوظيفيّ مقاربات في سُبل تنميته، وانعكاساتُه على بيئة العمل
المرأة والفتن الإعلامية… وعيٌ إيماني في زمن السوشيال ميديا