اغتنمي الفرصة
تتضجر كثير من الأمهات إن لم نقُلْ كلهنّ من أولادهنَّ الصغار، ويرون فيهم مصدرًا للإزعاج والصخب، وتَعتبِر الأمهات الطموحات إلى الشهادات العالية، والأعمال المُفيدة الراقية، أن أولادهنَّ هم السبب في تأخُّر الإنجاز، بل هم العقبة الأساسية أمام أحلامهنَّ.
وقد يكون هذا صحيحًا ومنطقيًّا؛ فالأولاد يَحتاجون كل العناية والرعاية، ويَستهلِكون الوقت كله، ويستنفِدون الجهد، ويُخرجون الحليم - أحيانًا - عن طوره، ولكن للصغار - أيضًا - بهجة لا تُعادلها بهجة؛ فحركاتهم اللطيفة تُفرِح القلب، وكلماتهم وعباراتهم الرقيقة تُضحِك الحزين، وأسئلتهم واستفساراتهم تُثير الإعجاب والتقدير، وضحكهم ومرحهم وصخبهم يقطع رتابة الحياة، ويُدخِل عليها السرور والحبور.
ولكن أولادنا لا يَبقون صغارًا فهم يكبرون، وإنهم ليَكبَرون بأسرع مما نتخيَّل، فيَفقِدون هذا التميز، ونخسر نحن تلك البهجة، ثم يُغادرون بيتنا يومًا للدراسة أو للزواج، ولا يرجِعون بعدها إلى دورنا إلا ضيوفًا.
فلم لا نَستمتِع بتلك المرحلة الرائعة قدر وسعنا لأنها لن تعود أبدًا؟ ولم لا نستمتِع وقد رزقنا الله إياهم ليهَبوا لنا السعادة لا ليَكونوا سببًا في تعاستِنا؟
♦ ♦ ♦ ♦
تنبَّه بعض الآباء لهذا، فقال أحدهم: "عندما كان أطفالي صغارًا كنت أنسى أن أفكر بالذات إلا عندما أكون بعيدًا عنهم؛ إذ كنت أقول لنفسي: كم أشتاق إليهم، وكم أريدهم معي، غيابهم ينغِّص لذتي وليس وجودهم، إلا أنني لم أعِ هذا إلا عندما بلغوا وأصبحوا بعيدين عني، ويعود سبب هذا أن الأكثرية لا تُفكِّر بالأبناء إلا بإطار العذاب والمشكلات"[1].
وكتبَتْ أمٌّ غربيَّة مقالة رائعة في مجلة المختار تحت عنوان:
"يَطيرون مثل العصافير" عن هذا الموضوع، وبثَّت فيها عاطفة الأم الفريدة مع الكلمات البليغة العاقلة، أقتطع منها هذه الفقرات: "عندما نقول - نحن الأهل - لولدنا: "سوف تَكبر في يوم من الأيام"، فإننا نعني أنه سيَكبر في يوم من أيام المستقبل البعيد جدًّا، ولا نَعني اليوم، والحقيقة الحُلوة المرة هي أن هذا اليوم يأتي أبكرَ مما نتوقَّع"، وتُتابع هذه الأم التي تركها ولداها كلاهما: "اليوم حين أرى الأمهات في المتاجر يَتصرَّفْن وكأن التبضُّع مع أولادهن أمر سيستمرُّ إلى الأبد، أرغب في أن أبوح لهن بهذا السر، وذات يوم بُعَيد رحيل ولدي الثاني، شاهدت طفلَين يتشاجران في متجر ووالدتهما تصرُخ فيهما: "كفَّا عن هذا الشجار"، وكنتُ أدرك مدى سطحية الشجار بين الإخوة، ولكنني لو اندفعت إلى تلك المرأة الغريبة وقلت لها: "تمتَّعي بهذه المرحلة من حياتك؛ فهي لن تدوم، لاعتقدت بأني مجنونة".
وتصف وضعها بعد رحيل أولادها فتقول: "أما المنزل فبدا مهجورًا بلا أولاد؛ فالألعاب مخبوءة في القبو، وصور التخرُّج مصفوفة على البيانو، والسكون يلفُّ الغرف؛ حيث غابت الحيوية الصبيانية التي ملأتها فيما مضى، لكن هذَين الشابين الطويلي القامة ليسا هما اللذين أفتقدهما، بل إني أفتقد الصبيَّيْن الصغيرَين العزيزين المقيمين فقط في كتاب الصور وفي الذاكرة"[2].
إن الأولاد هم - في الواقع - ضيوف في بيت أهلهم، وإنهم لراحلون يومًا، ومُغادرون إلى غير رجعة، وقد يعود بعضهم إلينا، وقد يَسكُن بجوارنا، وقد يُكثر من زيارتنا، ولكنه سيأتينا كبيرًا راشدًا، وسيأتينا مشغول الفكر أو مُستعجِلَ الانصِراف، وستَنتفي حاجته إلينا، وهذا من أكثر ما يؤلم الأمهات مع أنه أمر واقع لا بدَّ منه، ولكن علينا - نحن الأمهات - أن نقلِّل من تأثير ذلك بأن نجعل علاقتنا بأولادنا قوية ومتينة، وأن نبنيها على الحب والثقة، وعلينا أن نكرم وفادة أبنائنا ونحسن إليهم قدر استطاعتنا، فهم - بعد والدينا - أحق الناس بإحساننا ودعائنا، فنكظم غيظنا، ونَكبِت غضبنا، ونربيهم ونوجِّههم بالحب والحنان (مع الحزم عند الضرورة)، ولنُحملهم أجمل الذكريات لحياتهم معنا، ولنُثبت في أذهانهم أعظم الامتنان للبيت الذي حضنَهم.
إن الأولاد هم زينة الحياة الدنيا، وقد نادى زكريا ربه ألا يذَرَه فردًا، وكان النبي على كثرة أعبائه لا يبخَل على أحفاده بوقته، فيلاعبهم ويُراقبهم ويوجِّههم، فيُسرُّ بهم ويُسرُّون به.
فاغتنمي الفرصة أيتها الأم، ولا تُضيِّعي الوقت بالصراخ في وجوه أولادك، وتوجيه اللوم إليهم، وندب ما تلاقينه منهم، ولا تنصرفي عنهم إلى نفسك، بل تمتعي بأبنائك وهم في بيتك، ومتِّعيهم معك، ولن تندمي أبدًا.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن