الزهد... زينة المتقين
الزهد في الدنيا والعزوف عن شهواتها ورغباتها وزينتها ومتاعها: كل ذلك من كمال إيمان المسلم، وإن الرغبة في الآخرة لا تتم إلا بالزهد في الدنيا، والنظر إلى سرعة زوالها وفنائها، ونقصها... ولذلك كان حقاً على كل مؤمن عاقل أن يزهد فيها لهوانها على الله عز وجل، وكل شيء هان على الله فهو محل الضعة والنقصان والهلاك والخسران لقوله صلى الله عليه وسلم : "إنّ حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه" رواه البخاري. ولهذا اعتبر العارفون الزهد وسيلة للوصول إلى الله تعالى وشرطاً لنيل حبِّه ورضاه، ومَن أحبه الله تعالى فهو في نجاة وأمان ومقام رفيع في الجنان؛ يقول صلى الله عليه وسلم : "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" رواه ابن ماجه.
وقد أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا بقلبه، وعندما عُرضت عليه بَطْحاء مكة لتكون ذهباً قال صلى الله عليه وسلم : "لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جُعت تضرعت إليك وذكرتُك، وإذا شَبِعت حَمِدتك وشكرتك" رواه أحمد.
وأشار صلى الله عليه وسلم إلى الزهد فقال: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار الراوي بالسبابة - في اليمّ فلينظرْ بم ترجع" رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وأما زهد الصحابة والسلف الصالح فالأخبار عنهم كثيرة، والقصص طويلة، فهذا سيدنا عمر ابن الخطاب يُظهر زهده عندما نصحه أبناؤه بتناول الطعام الطيب ليكون له أقوى على الحق فكان جوابه لهم: "لو شئت لكنت أطيبَكم طعاماً، وألينَكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة".
لقد فهم الصحابة ومن سار على هديهم هذا المعنى للزهد؛ فلم يقفوا أمام فتنة الحياة وزينتها وقفة المبهور المتهافت، بل كانوا أعلى نفساً وأكبر قلباً أمام قيم الأرض جميعاً، استعلوا بقيمة الإيمان والرجاء بما عند الله، صرفوا قلوبهم عن الدنيا فلم يألفوها، وهجروها فلم يميلوا إليها، زهدوا فيها وهي في أيديهم، ولم يبيعوا حظهم من الآخرة. ذكروا الله بقلوبهم تعظيماً لربهم فألبسهم النور الساطع من محبته، وطهر أبدانهم بمراقبته وخشيته، جعلوا الركب لجباههم وساداً، والتراب لجنوبهم مهاداً... جعلوا القرآن لظلمتهم سراجاً، ولسبيلهم منهاجاً، سارعوا إلى الخيرات وانقطعوا عن الشهوات وخاضوا غمار الباقيات الصالحات فكانوا بحق سراج العباد، ومصابيح الدجى والرشاد.
هؤلاء هم الزاهدون حقاً في كل مكان وزمان، لهم يُخفض الجناح، ولهم يُذلَّل القلب واللسان، بشّرهم ربهم فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
وحين زَهِد سلفنا الصالح في الدنيا، وصدقوا في طلب الآخرة استطاعوا أن يتقدّموا إلى ميادين العزّة والكرامة، ميادين الجهاد والشهادة، برؤوس شامخة وشفاه باسمة ... وبقلوبٍ إلى الله مشتاقة، فكان واقعهم قرآناً حياً يمشي بين الناس.
أيتها الأخت المسلمة، لقد عشنا في شهر رمضان أياماً مباركة جليلة، فكانت لنا موسماً لتعميق الصلة بالله تعالى وترويض النفس على الزهد في الدنيا... حملنا رصيداً من السمو الروحي في معراج الصلة بالله رب العالمين. فالليل قيام وركوع وسجود، وتضرع ودموع، والنهار امتناع عن الطعام والشراب وسائر الملذّات، وكسر للشهوات والرغبات، وإرغام للشيطان... وإذا كان لمشاعر الإيمان هذا الرصيد الإيماني ما يجعلنا نرتقي إلى أجواء الطهر والنقاء، وعالم الصفاء والضياء، وإلى منازل القَبول والرضوان... فلتكن - أختي - هذه الصلة العميقة بالله امتداداً لما بعد رمضان، لنحمل خير الزاد إلى دار الأمان... علينا أن نكون ممن تجافت جنوبهم عن المضاجع فحلّوا عن الدنيا مطيّ رحالهم، وقطعوا منها حبال آمالهم، هابوا من الموت وسكَراته وكُرُباته، فسلكوا من السبيل رشاده.
أختي المسلمة، إن الإسلام عندما يدعو إلى الزهد في الدنيا فإنما يدعو إلى تجريد القلب من سيطرتها وعدم التعلّق بزينتها وشهواتها ومتاعها، فالمؤمن الصادق تكون الدنيا في يده لا في قلبه، يملك الدنيا ولكنها لا تملكه، يستغلها في طاعة الله ولا تستغله في معصيته تعالى، يستمتع بما أحل الله له من الطيبات من الرزق باعتدال من غير اسراف يلهيه وينسيه فلا ينغمس فيها ويُفتَتن بها فينسى الله واليوم الآخر.
كما أنّه من الخطأ أن نفهم أن الزهد هو الفَقر والمَسْكنة والحرمان من أجل التفرغ للعبادة وإيثار الآخرة، إن المَسْكنة التي يحبها الله من عبده ليست مَسْكنة الفَقر، بل مَسْكنة القلب وانكساره وتواضعه لربه؛ وليس من الزهد أن يهمل المسلم نفسه ومنظره وهيئته، بل الإسلام يحض على أن يكون مميزاً بين الناس بملبسه النظيف الأنيق، ورائحته الطيبة، ووجهه البشوش... المسلم يحرص على حُسْن مظهره بلا إسراف ولا مبالغة، ولا زهوّ أو خُيَلاء، مُظهراً نعمة الله عليه شاكراً لفضله.
وليس من الزهد التذلل والاستكانة والضَّعف، فالمسلم قوي من غير كِبر، عزيز من غير ضعف، متواضع من غير هوان ولا خنوع.
أختي المسلمة، فلنجعل الزهد زينتنا ومفتاح الخير لآخرتنا، ننظر إلى الدنيا نظر الزاهدين المُعْرِضين عنها، نَحْذر يوماً تُفحص فيه الأعمال، ويشيب فيه الولدان. ولتكن التقوى زادنا، والزهد لباسنا، واليقين مركبنا، والهدى طريقنا، والجنة مرادنا، وطوبى لهذه الفئة الزاهدة الصالحة التي أحسن وصفها الإمام النووي فقال:
إن لـــلـــه عـــبـاداً فُـــطـنــا طلّقوا الدنيا وخافوا الفِتَنا
نظروا فيها فلما علموا أنـــها لـــيـــســـت لـحــيٍّ سَــكَــنـا
جـعلوها لُجّة واتــخذوا صالح الأعمال فيها سُفُناl
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن